أقلام حرة

الديموغرافيا السياسية

زهدي إسماعيل جانبك.
الديموغرافيا والجغرافيا رفيقان لا يفترقان، فحيثما حل الاول يتبعه الثاني، ويؤثر ويتأثر به سلبا وايجابا في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وتاتي هذه المقالة ونحن على أبواب تعديل جديد للقوانين السياسية في الاردن، وفي مقدمتها قانون الانتخابات النيابية.
واذ نحتفل اليوم في الأردن بمئوية الدولة الأردنية ، فإننا نفتخر كشراكسة باننا من الشركاء المؤسسين للكيان السياسي الاردني الحديث، بشقيه: الإمارة، والمملكة.
وقد انعكس الدور الشركسي في التأسيس على حجم المشاركة السياسية للمكون الشركسي الاردني، وبما يتوافق مع نسبته من عدد السكان تنفيذا لنص دستور عام 1928 بما يتعلق بالتمثيل العادل للاقليات.
وقد انعكس هذا المبدأ بوضوح في قانون الانتخابات الصادر عام 1928 والذي خصص مقعدين نيابيين للشركس وفقا لمبدأ المحاصصة ، وليس على مبدأ الكوتا المعروف، إذ ان اهم ما يميز الكوتا انها تهدف الى الحد الأدنى من التمثيل للفئة المستفيدة ولا تضع حدا أعلى للمشاركة، بعكس ما نص عليه ذلك القانون حيث خصص للشراكسة مقعدين فقط لا يمكن تجاوزهما، وقد انطبق هذا المبدأ على حصة البدو (مقعدين) وحصة المسيحيين (ثلاثة مقاعد).
وتشير الاحصائيات الى ان عدد سكان شرق الأردن حينها كان حوالي 250 الف نسمة، وكان عدد مقاعد المجلس التشريعي الأول للإمارة 16 مقعدا اثنان منها للشراكسة وبنسبة تمثيل تصل إلى 12.5%، وهو ما كان يتفق مع عدد الشراكسة في الأردن المقدر وقتها بحدود ال 22 الف نسمة.
وعلى الرغم من الظروف العامة المحيطة بتأسيس الدولة من جهة، والتدخل السافر للمستعمر البريطاني من جهة أخرى، فإن هذه المحاصصة لم تكن عادلة مع بدو الأردن لظروف ترحالهم وتنقلهم المستمر، لدرجة انهم كانوا ممنوعين من الانتخاب المباشر لمن يمثلهم ، وكان يتم اختيار نوابهم الاثنان من قبل لجنتين أحداهما لبدو الشمال والثانية لبدو الجنوب يعينهما الأمير بمرسوم.
استمر هذا القانون ساريا حتى عام 1947 حيث تم إصدار قانون الانتخاب الجديد الذي رفع عدد النواب الى 20 نائبا يمثلون سكان الاردن البالغين 470 الف نسمة، وعلى الرغم من بقاء حصة الشركس مقعدين الا ان نسبة المشاركة بالعملية السياسية انخفضت لتصبح 10%، ويعود ذلك الى التغير الديموغرافي البسيط في كافة مكونات المجتمع الأردني في حينها والذي أدى إلى مضاعفة عدد السكان خلال عقدين ونصف نتيجة النمو الطبيعي السكان ، وما نجم عن الحرب العالمية الثانية من حركات سكانية.

التغير الديموغرافيا الأول
عام 1950 حدث التغير الديموغرافيا الأكثر حدة بعد موجة اللجوء نتيجة العدوان الاسرائيلي من جهة ، واعلان وحدة الضفتين من جهة أخرى… فارتفع عدد أعضاء مجلس النواب الى 40 نائبا ، وبقيت حصة الشركس ثابتة من حيث العدد ومحصورة بمقعدين، ولكن نسبة المشاركة السياسية للشركس انخفضت الى اقل من النصف بحيث لم تتجاوز 5 %…

وعلى الرغم من عدالة النسبة قياسا الى نسبة عدد الشركس الى عدد السكان الكلي البالغ حينها 1,200,000 نسمة بينما لم يتجاوز عدد الشركس في الأردن حينها ال 45 الف نسمة الا ان الشركس كانوا اكبر الخاسرين سياسيا نتيجة هذا التغير الديموغرافي الحاد، ومع ذلك فقد بقي لهم تأثير كبير على الحياة السياسية مبني على جهود الرواد الأوائل من أمثال سعيد المفتي ووصفي ميرزا وسامي شمس الدين وشوكت حؤبش وغيرهم…
ومع استمرار التغيرات الديموغرافية غير الطبيعية الناتجة عن الحروب واللجوء بالإضافة إلى الزيادة السكانية الطبيعية اخذت نسبة مشاركة الشراكسة في الحياة السياسية الأردنية تنخفض شيئا فشيئا.

ففي عام 1956 تم زيادة عدد النواب ليصبح 50 نائبا مع بقاء حصة الشركس مقعدين مما خفض نسبة مشاركة الشركس الى 4%…وعلى الرغم من زيادة عدد النواب الى 60 نائبا عام 1978 ، والى 75 نائبا عام 1982 الا ان عدد مقاعد النواب الشركس بقي ثابتا عند مقعدين مع انخفاض نسبة المشاركة الى 3.3%، و 2.6% على التوالي.
وكان عدد سكان الاردن قد بلغ حينها 2,133,000 نسمة نتيجة اللجوء والنزوح بسبب العدوان الاسرائيلي عام 1967 ، وكان عدد شراكسة الأردن قد بلغ حينها حوالي ال 60 الف نسمة نتيجة الزيادة الطبيعية ، وهي زيادة غير مكافئة للتغيرات الديموغرافية الناتجة عن الزيادات غير الطبيعية في عدد سكان الاردن.

وقد أدى هذا الأمر إلى التأثير سلبيا على مستوى الاهتمام السياسي والمشاركة السياسية بسبب انعدام الثقة بالقدرة على التاثير بالقرار السياسي ديموقراطيا من خلال مجلس النواب، مع ما رافق ذلك من انخفاض مستويات التمثيل تشريعيا وتنفيذيا، فلم يتكرر تكليف سعيد المفتي، أو غيره من المجتمع الشركسي بتشكيل الحكومة، ولم تتكرر رئاسة اي من مجالس الاعيان او النواب او المجلس الوطني الاستشاري بعد انتهاء رئاسة دولة سعيد المفتي لمجلس الاعيان عام 1974.

وبالمقابل تضاعف اهتمام أبناء المجتمع الشركسي بعملهم العسكري الذي لا يعتمد على النسبة العددية او الانتخابات لتحقيق مركز متقدم ومؤثر في الحياة العامة.

وازداد اثر التغيرات الديموغرافية حدة على المكون الشركسي ونسبة تمثيله السياسي في السلطة التشريعية، ففي عام 1989 عادت الحياة النيابية من خلال إجراء الانتخابات التشريعية وفقا لقانون انتخاب جديد رفع عدد أعضاء مجلس النواب ليصبح 80 نائبا ولأول مرة يتم زيادة حصة الشركس من المقاعد النيابية ليصبح 3 مقاعد لترتفع نسبة المشاركة في المجلس النيابي الحادي عشر الى 3.7 %.

مرحلةانخفاض نسبة تمثيل الشركس والمسيحيون والبدو في مجلس النواب:

الا ان هذه النسبة ما لبثت ان عادت الى الانخفاض نتيجة زيادة عدد النواب عام 2001 ليصبح عددهم 110 نواب ، ثم 120 نائب ، ثم 150 نائب ليعود بعدها العدد ويستقر عند 130 نائب للمجلسين الثامن عشر والتاسع عشر، مع بقاء حصة الشركس عند 3 مقاعد، وزيادة حصة المسيحيين الى 9 مقاعد ، وزيادة حصة البدو الى 12 مقعد ، لتصبح نسبة المشاركة السياسية الشركسية في السلطة التشريعية 2.3 %.

وقد تزامن هذا الانخفاض مع انخفاض نسبة التمثيل المسيحي في مجلس النواب من 18.7 % عام 1928 لتصبح 6.9 % عام 2021 ،

بالإضافة إلى انخفاض نسبة التمثيل البدوي في المجلس من 12.5 % عام 1928 لتصبح هذه النسبة 9.2 % عام 2021….!!!!
ترافق هذا الانخفاض الحاد بنسبة التمثيل النيابي الشركسية مع تغير ديموغرافي حاد تمثل بزيادة عدد السكان الى ما يقارب 11 مليون نسمة منهم ما يقارب 7 مليون مواطن أردني منهم 170 الف شركسي تقريبا.

هذه التغيرات الديموغرافية الحادة في المكون السكاني الاردني، ترافقت بلا شك مع تغيرات في الفكر والأداء السياسي الجمعي، والقت بظلال عميقة على مجمل العملية السياسية وعلى قوانينها الناظمة للحياة الحزبية والتشريعية.

التغيير
ومع ادراكنا بأن ما كان يصلح بالأمس لن يكون مناسبا اليوم، وبالتأكيد لن يكون منتجا للمستقبل، الا اننا ونحن نقف على أعتاب المئوية الثانية للدولة الأردنية ، لا بد وان نلتفت الى ما يشكل الهوية الوطنية الجامعة، وأن نعيد النظر بالادوات الناظمة للحياة العامة في الدولة الأردنية ابتداءا من الدستور، مرورا بالقوانين السياسية التشريعية والخدمية والحزبية بشكل يساعد على ارساء قواعد الدولة الأساسية بما يتوافق مع مفاهيم المواطنة الحقة ويعزز أسس السلم المجتمعي ويتعاطى مع المخاوف ومصادر القلق لكافة مكونات المجتمع بكل انفتاح وشفافية وبشكل يعزز مباديء الشراكة الذكية الهادفة الى تحقيق وتعظيم الفائدة لكافة المكونات، ومبنية على رؤية مشتركة طويلة الأمد.

[email protected]
مدير مركز شركيسيا للدراسات والأبحاث
نائب رئيس جمعية السلم المجتمعي
عضو الهيئة الإدارية لجمعية عون الثقافية الوطنية.
زهدي إسماعيل جانبك.

زر الذهاب إلى الأعلى

You cannot copy content of this page