أقلام حرة

مباديء من ورقة التقويم العربي الهاشمي

العميد المتقاعد زهدي جان بيك

عام 1981 بدأت دراسة علم الإدارة… وقضيت الأربعين عاما الماضية وانا لا زلت ادرسه واتعلمه الى يومنا هذا… كل هذا وهو علم بشري فكيف لو كان من العلوم الشرعية؟؟؟

احد القضايا الرئيسة في هذا العلم مبدأ التخصص الذي يتفق عليه الجميع (نظريا)،
فتجد اننا في نقاشاتنا المجتمعية، اول ما ننادي به: “يا عمي، اعطِ الخبز للخباز ولو اكل نصه”… وهذا نداء اجتماعي صريح للتخصص ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب…. ولكنه نداء نظري فقط… يتم التخلي عنه عند طرح اول موضوع للنقاش… فيبدأ الجميع بالافتاء والتنظير… مهما كان الموضوع المطروح… وليذهب التخصص الى الجحيم… فالجميع “طاسة صيني”… من وين ما دقيت عليه “برن”… ويفهم في كل شيء…

وقد اثبتت التجربة اننا “نفهم اكثر من جميع علماء الفيروسات في العالم”… في جائحة الكورونا…ونفهم اكثر من جميع علماء العالم في “فنون الحرب”…وفي “شرائح الكمبيوتر الدقيقة”… وفي تصنيع الاسلحة”… وفي “الجيولوجيا والثروات المعدنية”…وفي “السياسة والاقتصاد”…وفي “السيارات الكهربائية والهجينة والعادية”… باختصار: نحن نفهم ونجادل في كل شيء….وطبعا “رأينا هو الاصح دائما “… وفي نهاية كل جدال، لا بد أن يختمه احد الجهابذة المشاركين فيه بالقول:” أعط الخبز للخباز ولو اكل نصفه”….

من أجمل ما سمعت لوصف هذه الحالة من الاعتداء على الاختصاص واهله، قصتين تراثيتين حقيقيتين في ناعور:
الأولى:
كان ختيارية القرية يتجمعون في ساحة جامع الشركس في ناعور انتظارا لغروب الشمس في رمضان، لاطلاق مدفع الإفطار، ورفع اذان المغرب… وكانوا يعتمدون على التقويم العربي الهاشمي من جهة، وعلى الرؤية المباشرة من جهة أخرى… ولكن التقويم هو الأولى بالتطبيق… وكان يحدث ان ينظر أحدهم الى ساعته ويوجه كلامه الى المؤذن قائلا: “حكم الوقت اضرب المدفع”… وعندها يلتفت أحدهم هامسا بإذن جاره: “فلان اشترى ساعة من سوق البخارية بعشر قروش، بفكر حاله صار يفهم بالوقت”… في إشارة واضحة الى ان تحديد وقت الاذان من اختصاص المؤذن، وهو الوحيد صاحب الاختصاص المؤهل ليقول “اضرب المدفع”…
الثانية:
كانت هناك بسطة على زاوية احد المنازل يجتمع اليها الختيارية… ويتحاورون في شؤون العالم (الحروب، والثورات، والاحتلال… الخ)… وكان مصدرهم الوحيد للمعلومة هو الإذاعة من راديو يتيم… وكثيرا ما كان شخص معين (ابو فلان) ويشارك في الجدل الدائر مدعيا العلم اليقين في الأمر نتيجة قراءاته… وما يلبث ان يلتفت أحدهم هامسا بإذن جاره : “ابو فلان بلاقي قصقوصة جريدة مرمية بالشارع بقراها وبفكر حاله صار يفهم بالسياسة”
هذه الاحداث كان يرويها لنا بشكل فكاهي والدي رحمه الله تعالى ليعلمنا ضرورة قبول الاخر مهما كان رأيه، وضرورة الاستماع إلى صاحب الاختصاص دون منازعته سلطته المبنية على التخصص.

الصورة المرفقة من التقويم العربي الهاشمي سنة 1937 كانت قد وضعت حلولا شاملة لكل حالات الجدل العقيم التي نراها في أيامنا هذه. بل وادعي بالقول انها (اي ورقة التقويم هذه) كانت افضل من مئات الخطب والندوات والمحاضرات في ارساء مباديء التعايش وقبول الاخر والسلم المجتمعي… دون أي كلمة… فمجرد قراءة الورقة كان كافيا لارساء هذه المبادئ المجتمعية السامية…
ففي هذه الورقة التي لا تتجاوز مساحتها مساحة الكف نجد التقويم الهجري، والتقويم الميلادي، والتقويم القبطي، والتقويم العبراني… ونجد اللغة العربية، واللغة الفرنسية… ونجد التوقيت العربي والتوقيت الزوالي…
ورقة واحدة صغيرة تقبل جميع الاديان والطوائف والاعراق والتواريخ…

ملاحظة (1):
كان والدي رحمه الله يعتمد التوقيت العربي ويثبته على ساعته، فالمغرب عنده كان يؤذن الساعة الثانية عشرة، والعشاء مثلا كان يؤذن الساعة الواحدة…
ملاحظة (2):
الإفتاء الشرعي موضوع متخصص جدا شروطه العامة، تتلخص في التكليف والإسلام.

وله شروط أخلاقية:
كالثقة والأمانة والتنزه عن أسباب الفسق ومسقطات المروءة. ومن أهمها العدالة.

وله شروط فكرية وتربوية:
سلامة الذهن ورصانة الفكر، وصحة التصرف والقدرة على الاستنباط والتيقظ، وجودة القريحة، ودقة الفهم لمقاصد الكلام ودلالة القرآن.

وله شروط تتعلق بكتاب الله:
لا يحل لأحد يفتي في دين الله إلا رجلا عارفا بكتاب الله عالما بناسخه ومنسوخه ، وبمحكمه ومتشابهه ، وتأويله وتنزيله ، ومكيه ومدنيه ، وما أريد به ، وفيما أنزل.

وله شروط تتعلق بالحديث:
ثم يكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، وبالناسخ والمنسوخ ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن.

وله شروط تتعلق باللغة:
ان يكون بصيرا باللغة ، بصيرا بالشعر ، وما يحتاج إليه للعلم والقرآن ، ويستعمل مع هذا الإنصاف ، وقلة الكلام ،

وله شروط تتعلق بالمجتمع:
ان يكون مشرفا على اختلاف أهل الأمصار ، ويكون له قريحة بعد هذا ، فإذا كان هذا هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام ، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي.

وقد قيل :
” ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بالسنن ، عالما بوجوه القرآن ، عالما بالأسانيد الصحيحة ، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة ، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها”.
ملاحظة (3):
قبل ان تكتب تعليقا هنا او في اي مكان … فكر بما يلي:
هل اكلام صحيح؟… هل هو ضروري؟… هل هو مفيد؟… هل هذا وقته؟ هل هذه مكانه ؟… هل سيؤدي الى تغيير؟…. فاذا انطبقت جميع الشروط فاكتب وانشر.

اخيرا : ليس كل من وجد قصقوصة ورق وقرأها أصبح عالما عارفا مفتيا…. ارحمونا واتركوا الخبز للخباز…

زر الذهاب إلى الأعلى

You cannot copy content of this page