أقلام حرة

إسرائيل في مسار التفكك البطيء: كيف تقود الحرب على غزة والتصعيد مع إيران إلى أزمة وجودية طويلة الأمد؟

د. ناصر أبورمان

منذ بداية الحرب على غزة، وجدت إسرائيل نفسها عالقة في نزاع مفتوح بلا أفق واضح للحسم. العملية العسكرية التي بدأتها حكومة نتنياهو تحت عنوان “الردع وإعادة السيطرة” تحوّلت سريعًا إلى حرب استنزاف مركّبة، تتآكل فيها القوة العسكرية وتتفكك الجبهة الداخلية، بينما تتسارع تطورات إقليمية تضع الكيان في مواجهة أكثر تعقيدًا، وأكثر خطرًا، مما كان عليه في أي وقت مضى.

في قلب هذا المشهد، بات من الواضح أن الجيش الإسرائيلي يعاني من إنهاك متصاعد، ليس فقط من حيث الموارد والمعدات، بل على مستوى الروح المعنوية لقواته. الآلاف من جنود الاحتياط يعيشون ضغوطًا اجتماعية واقتصادية هائلة، وسط شعور عام بأن هذه الحرب بلا نهاية، وبلا نتائج حاسمة. ورغم حجم الدمار الهائل في غزة، فإن قدرة المقاومة الفلسطينية على الصمود والرد بقيت حاضرة، بل وفعالة في إرباك الداخل الإسرائيلي وتقويض ما تبقى من صورة الردع التقليدية.

في الداخل، يزداد الاستقطاب السياسي حدة، وتفقد الحكومة اليمينية قدرتها على إدارة الموقف. الثقة برئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تتراجع بسرعة، حتى بين أنصاره، في ظل شعور عام بأنه يقود البلاد إلى نفق استراتيجي دون مخرج. في الوقت نفسه، تشهد الأسواق الإسرائيلية تراجعًا ملحوظًا في الاستثمارات، وسط تزايد قلق المجتمع الاقتصادي من طول أمد الحرب، وتبعاتها على الاستقرار المالي والتجاري.

لكن التطور الأخطر يتمثل في التصعيد مع إيران، التي باتت اليوم في قلب المشهد الإقليمي. التوترات المتزايدة بين الطرفين لم تعد محصورة في ضربات محدودة، بل أخذت شكل مواجهة مفتوحة مع ايران .
يجد صناع القرار في تل أبيب أنفسهم محاصرين بواقع جيوسياسي جديد. هذا المحور لا يمتلك فقط القدرة العسكرية، بل أيضًا الزمن، والدعم الشعبي، والمرونة الاستراتيجية، وهو ما تفتقر إليه إسرائيل في هذه المرحلة.

ما يحدث اليوم ليس مجرد أزمة مؤقتة، بل ملامح تفكك استراتيجي بطيء. الدولة العبرية، التي بنت على مدى عقود صورتها كقوة لا تُقهَر، تواجه اليوم تحديات مركّبة تمسّ بنيتها العميقة: الثقة بالمؤسسة العسكرية، تماسك الجبهة الداخلية، الشرعية السياسية، والاستقرار الاقتصادي. وحتى الحلفاء الغربيون بدأوا يراجعون مواقفهم، مدفوعين بتغير المزاج الشعبي الداخلي والضغوط الإنسانية المتزايدة.

في ظل هذا الواقع، يصبح من الواضح أن أي انفراج محتمل في غزة لن يكون نتيجة مفاوضات أو تنازلات سياسية تقليدية، بل نتيجة حتمية لما تعيشه إسرائيل من أزمة بنيوية شاملة. إنها اللحظة التي تتحول فيها المقاومة من طرف محاصر إلى فاعل إقليمي مؤثر، بينما تنزلق تل أبيب، ببطء ولكن بثبات، نحو مسار لم تكن يومًا مستعدة لمواجهته: مسار فقدان السيطرة.

إن ما يجري الآن ليس نهاية سريعة لدولة، بل بداية نهاية بطيئة لقوة فقدت زمام المبادرة، وتحوّلت من مركز صنع القرار إلى ساحة يُعاد فيها رسم ملامح المستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى