أقلام حرة

مشاريع الشرق الأوسط والخرائط الممزّقة

د. نعيم الملكاوي

“من طهران إلى غزة… ومن إسطنبول الى عدن … الشرق الأوسط في قبضة المشاريع المتصدّعة “

منذ عقود ، ظل الشرق الأوسط ساحةً لتزاحم المشاريع الكبرى : المشروع الإيراني الممتد عبر محور المقاومة؛ المشروع التركي الذي يعيد توظيف إرثه العثماني وفق مصالحه؛ المشروع الصهيوـ أمريكي القائم على إعادة هندسة الخرائط عبر «الفوضى» ، «التطبيع» و «الازدهار» ؛ والمشروع العربي الذي بقي شبحاً بلا ملامح مكتملة .

اليوم ، وبعد حرب إسرائيلية إيرانية ضربت فيها المنظومة الصاروخية وثلاث مفاعلات نووية مركزية واشتباكات استنزفت وكلاء طهران من غزة إلى لبنان واليمن في حين غاب عن المشهد وكلاءها في سوريا والعراق ، باتت الأرقام تفضح ما أخفته الشعارات لترتسم ملامح جديدة لهذه المشاريع في ضوء التحولات الجارية .

أولاً : المشروع الإيراني — محورٌ يتصدّع بالأرقام

  • إجمالي عدد الميليشيات المرتبطة بطهران في العراق وسوريا ولبنان واليمن يُقدّر بـ أكثر من 120 فصيلاً مسلّحاً ، بميزانية دعم تتراوح بين 15 إلى 20 مليار دولار سنوياً وفق تقديرات مراكز أبحاث غربية .
  • في الحرب الأخيرة ، تكبّد حزب الله وحده خسائر بشرية تُقدّر بنحو 1,500 عنصراً وفقد قيادة الصف الأول خلال أشهر المواجهة مع إسرائيل ، وسط تقديرات بتراجع جاهزية ترسانته الصاروخية واللوجستية بنسبة 30% بفعل الضربات الجوية التي تلقاها .
  • في اليمن ، رغم أن الحوثيين ما زالوا يسيطرون على نحو 70% من شمال البلاد ، إلا أن الانقسامات الداخلية جعلت بعض الألوية تتصرف خارج توجيهات طهران .
    وعليه فإن المشروع الإيراني لم يعد متماسكًا كما كان ، إذ أصبح نفوذه رهين استنزاف ميداني وضغوط مالية وسط بيئة إقليمية أشد صرامة وتهديد امريكي بالعودة الى العمليات العسكرية .

ثانياً : المشروع التركي — ترويض الفوضى عبر الحدود

  • منذ 2016 ، نفّذت تركيا ما يزيد عن 4 عمليات عسكرية كبرى في شمال سوريا ، وسيطرت فعلياً على جيب حدودي يقطنه أكثر من 3 ملايين نسمة .
  • صادرات تركيا إلى دول الشرق الأوسط ارتفعت من 35 مليار دولار عام 2020 إلى أكثر من 50 مليار دولار عام 2024 ، ما يعكس كيف صار الاقتصاد نافذة نفوذ أنقرة الأهم اتجاه الاقليم .
  • ميزانية الدفاع التركية سجلت ارتفاعاً بنسبة 40% خلال السنوات الثلاث الأخيرة ، معظمها لتطوير برامج الطائرات المسيّرة التي تلعب دوراً مركزياً في فرض التوازنات على الساحة .
    أنقرة تمارس ضبط إيقاع للفوضى لا بهدف توسع إمبراطوري مباشر ، بل لحماية حدودها وأمنها الاقتصادي ، عبر إدارة المشهد لا الانغماس فيه وبدون تبني تبعاته .

ثالثاً : المشروع الصهيوـ أمريكي — هندسة الخرائط بالتطبيع والفوضى والازدهار تارة اخرى

  • تزامنت الضربة الإسرائيلية لإيران مع أكبر موجة تطبيع أمني ـ اقتصادي مع دول عربية منذ 2020 ضمن المسار الابراهيمي ؛ إذ وقّعت إسرائيل مؤخراً اتفاقيات «شراكة دفاعية» مع 3 دول خليجية جديدة ، وبلغت التجارة الإسرائيلية الخليجية ما يزيد عن 5 مليارات دولار سنوياً .
  • تمتلك إسرائيل أكثر من 200 رأس نووي وفق تقارير غير رسمية ، فيما زادت واشنطن مساعداتها العسكرية لتل أبيب إلى 4 مليارات دولار سنوياً .
  • في غزة وحدها ، تشير التقديرات إلى أن الحرب الأخيرة دمّرت أكثر من 60% من البنية التحتية ، ما يخلق فراغاً إنسانياً وأمنياً يُعاد توظيفه ضمن سياسة « السلام القلق » .
    ان المشروع الصهيوـ أمريكي لم يعد يكتفي بالقوة الصلبة ، بل يحاول ان يزرع سلاماً هشّاً يبقي المنطقة رهينة صفقة أو ضربة مسيّرة او تدخل عسكري في أي وقت .

رابعاً : المشروع العربي — حضور رقمي بلا مشروع جامع

  • وفق أرقام البنك الدولي ، أنفقت الدول العربية مجتمعة أكثر من 100 مليار دولار على التسلح في عام 2024 وحده ، لكن دون وجود تحالف دفاعي مشترك فعال .
  • تسجّل نسبة التعاون الاقتصادي البيني العربي أدنى مستوياتها عالمياً ، إذ لم تتجاوز 10% من إجمالي التجارة الخارجية للدول العربية .
  • في المقابل ، يُقدّر عدد القواعد العسكرية الأجنبية في المنطقة بأكثر من 40 قاعدة أمريكية وفرنسية وبريطانية وتركية ، في مؤشر على الفراغ الاستراتيجي الذي يملأه الآخرون .
    المشروع العربي يبقي أرقاماً متفرّقة بلا ملامح استراتيجية واحدة ، كثيراً ما يتماهى البعض مع المشاريع الاخرى أو يقف في منطقة رمادية خلف ظلالها .

اما في غزة ، تتناوب الفصائل على البقاء في المشهد رغم الحصار والقصف ، لكن غياب حاضنة إقليمية ( عربية / إسلامية ) مستقرة يزيد من هشاشة أوراق المقاومة ويزيد من عناء الغزيين .

من يكتب الخرائط ومن يُمحى منها ؟ هكذا ، لا تكتمل خريطة الشرق الأوسط إلا إذا قُرِئت من فجواتها . مشروعٌ إيراني يترنّح بين طموح التوسع وكلفة الوكلاء ؛ مشروعٌ تركيٌ يداوي أمنه عبر ضوابط مصلحية ؛ مشروعٌ صهيوـ أمريكيٌ يتقن تدوير الفوضى وتصدير «السلام القلق» ؛ ومشروعٌ عربيٌ غائبٌ ينتظر خرائط غيره ليُعيد تعريف نفسه .

في شرقٍ لا يحترم الفراغ ، قد يولد مشروعٌ عربيٌّ ذات يومٍ من رماد الخسارات ، أو قد نبقى لعقود أخرى نقرأ خرائط الآخرين ونحصي الخسائر… بالأرقام متفرجين غير فاعلين .

زر الذهاب إلى الأعلى