أقلام حرة

من الشيوع إلى الصدع: الاختصاص والمخالفة…لجان إزالة الشيوع.. العدل المتأخر أقرب إلى الظلم…

المحامي هاشم سليمان عبدالله العلي

تُعد قضايا الشيوع وإزالته من القضايا ذات الطابع الحقوقي والاجتماعي العميق في المجتمع الأردني، لما لها من أثر مباشر على ملكية الأفراد واستقرار العلاقات المدنية، في ظل الانتشار الواسع للعقارات المشتركة على الشيوع، والتي تتجدد يومًا بعد يوم. ويُعبَّر عن الشيوع بأنه صك أرض أو عقار يشترك فيه أكثر من شخص، وغالبًا ما يتعلق بعقارات ذات مساحات كبيرة وقيمة عقارية مرتفعة. وتأتي ضرورة إزالة الشيوع للحفاظ على حقوق الأفراد وإعطاء كل ذي حق حقه.
في الأصل، كانت إزالة الشيوع تنظم استنادًا إلى أحكام الشريعة الإسلامية، التي أفردت تفصيلًا دقيقًا في أنواع القسمة وآليات تنفيذها، لكن مع تطور المجتمعات وتعقّد أشكال الملكية، أصبحت الحاجة ماسّة إلى معالجة حالات الشيوع على العقار ضمن إطار قانوني واضح وعليه، فإن الحديث عن إزالة الشيوع من منظور قانوني حديث أصبح ضرورة.
تُعد عملية إزالة الشيوع عملية حقوقية بالأساس، لتعلقها بحق الملكية الذي يحظى بحماية دستورية وقانونية. ويعزز هذا الطرح مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية، التنفيذية، والقضائية، كما نص عليه الدستور الأردني، فقد أناط الدستور الفصل في المنازعات ومنها إزالة الشيوع، بالسلطة القضائية على أن تُنفذ قراراتها من قبل السلطة التنفيذية عبر دوائرها المختصة.
إلا أن ما شهدته الساحة القانونية خلال السنوات الأخيرة هو نقل اختصاص الفصل في قضايا إزالة الشيوع من المحاكم النظامية إلى لجان إدارية تشكل ضمن دائرة الأراضي والمساحة، ورغم أن هذا التوجه جاء تحت ذريعة التبسيط وتسريع الإجراءات، إلا أن الواقع العملي أثبت وجود تخبط في التطبيق وتأخر في الإجراءات ما زال قائمًا حتى يومنا هذا.
لا بد من التمييز هنا بين التنظيم والإحقاق، فبينما يُعد التنظيم أداة لتيسير الوصول إلى الحق، فإن أصل الحق هو جوهر الحماية القانونية ومن هذا المنطلق، يُثار التساؤل الجوهري: هل تُعد إزالة الشيوع قضية حقوقية أم تنظيمية؟
إن مبدأ الفصل بين السلطات، وإن كان يؤسس لاستقلال كل من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية عن الأخرى، إلا أنه لا يعني القطيعة بينها، بل يقوم على التكامل في إطار من التوازن والرقابة المتبادلة. ويبرز هذا التكامل بوضوح في القضايا المرتبطة بحقوق الملكية ومنها إزالة الشيوع.
فبينما تسن السلطة التشريعية القوانين التي تنظم الملكية وتحدد القواعد الموضوعية لإزالة الشيوع، تضطلع السلطة القضائية بتطبيق تلك القوانين وتفسيرها، وتقوم السلطة التنفيذية بتنفيذ الأحكام القضائية ذات الصلة. ويُعد موضوع إزالة الشيوع نموذجًا واضحًا لهذا الترابط بين السلطات الثلاث.
من القصور التشريعي أن يُترك هذا الترابط عرضة للتغول أو التقاطع، إذ أن الحق في الملكية وحق التصرف وحق إزالة الشيوع، هي حقوق مترابطة تُشكّل مثلثًا لا يجوز فصله في البناء القانوني الحديث، وهو ما يؤكد أن إزالة الشيوع قضية حقوقية وليست مجرد مسألة تنظيمية.

تعتبر السلطة القضائية الجهة المختصة بإحقاق الحقوق، لما تملكه من أدوات قانونية ومنهجية قضائية واضحة وإزاء ذلك، فإن نزع الاختصاص من المحاكم وإحالته إلى لجان تنظيمية إدارية يُعد تقويضًا لمكانة القضاء، ويؤدي إلى زعزعة المراكز القانونية للأطراف.
عند مقارنة الإجراءات بين القضاء واللجان، يتضح وجود فارق كبير في الانضباط الزمني والإجرائي فالمسار القضائي، وفقًا لأحكام قانون أصول المحاكمات المدنية، يُقيّد تأجيل الجلسات بمدة لا تتجاوز خمسة عشر يومًا، مما يضمن سرعة البت في القضايا. أما في اللجان، فالتأجيلات قد تمتد لأشهر دون وجود سقف زمني، وهو ما يؤدي إلى تعطيل الحقوق وإطالة أمد النزاعات.
كما أن اللجان لا تعتمد على التبليغ بالإلصاق، مما يُفقد إجراءاتها جزءًا من الضبط القانوني المعتمد أمام القضاء، ويؤدي إلى إضعاف فعالية التبليغات، وبالتالي تعطيل الفصل في الطلبات.
عند صدور نظام لجان إزالة الشيوع في العقار – رقم (145) لسنة 2019، تم تبرير نقل الاختصاص بأنه يهدف إلى تسريع البت وتخفيف الضغط عن المحاكم. إلا أن هذه الأسباب، رغم ظاهرها الإجرائي، تُخفي خلفها إشكالات دستورية وإجرائية عميقة.
أول هذه الإشكالات هو تعارض الإحالة إلى اللجان مع مبدأ الفصل بين السلطات، فإزالة الشيوع تتعلق بحقوق الملكية، وهي من اختصاص القضاء وثانيها، أن تلك اللجان لا تلتزم بأصول المحاكمات ولا بضمانات المحاكمة العادلة، كالحق في الدفاع والعلنية والرقابة، مما يُضعف الثقة في قراراتها.
ثالث الإشكالات يتمثل في ضعف الخبرة القضائية لدى أعضاء اللجان، فهم في الغالب من ذوي الخلفيات الإدارية لا القضائية، وهو ما يُثير التساؤل حول جودة القرارات الصادرة وقدرتها على تفسير النصوص وتطبيقها بعدالة.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن استمرار الشيوع يؤدي إلى خلافات متفاقمة بين الشركاء، وقد تتطور إلى قطيعة وتوترات داخل الأسرة الواحدة، نتيجة الشعور بالغبن أو الظلم في آلية التقسيم اقتصاديا، يؤدي استمرار الشيوع إلى تعطيل استثمار العقارات ومنع التصرف فيها، مما يُجمّد ثروات كبيرة ويُعيق حركة السوق العقاري.
من هنا، فإن معالجة قضايا إزالة الشيوع عبر لجان إدارية غير قضائية لا يفي بالمتطلبات القانونية ولا الاجتماعية، بل يفاقم النزاع ويُهدد الاستقرار وإن العودة إلى القضاء هي الضمانة الحقيقية لتحقيق العدالة.
القضاء ضرورة وليس خيارًا إن إعادة اختصاص إزالة الشيوع إلى المحاكم النظامية ليست مجرد مسألة تنظيمية تندرج في إطار توزيع الاختصاصات، بل هي ضرورة قانونية لضمان العدالة، وأداة اجتماعية لحماية العلاقات بين الأفراد، ورافعة اقتصادية لتعزيز الاستثمار واستقرار السوق العقاري. فالمحكمة، بخلاف اللجان الإدارية، لا تؤدي دورًا إجرائيًا شكليًا فحسب، بل تشكل سلطة دستورية مستقلة تُوازن بين المصالح وتُرسّخ سيادة القانون وتضمن الحقوق.

يمثل هذا التوجه عودة إلى الأصل الدستوري الذي يجعل من القضاء المرجع الوحيد للفصل في المنازعات الحقوقية، ومنها إزالة الشيوع، لما تقتضيه من تطبيق للقانون وتفسير للنصوص وتقدير للوقائع فالمحاكم تخضع لأحكام أصول المحاكمات المدنية، وتكفل للخصوم حق الدفاع، وحق الاعتراض، وعلانية المحاكمة، والرقابة القضائية على مراحل الدعوى، وهي ضمانات لا تتوفر في عمل اللجان الإدارية.
وعلاوة على ذلك، فإن القاضي، بما يتمتع به من استقلال وخبرة قانونية، يكون أكثر قدرة على تفكيك تعقيدات العلاقة القانونية بين الشركاء، وتقدير ما إذا كان من الأجدى التجزئة أو البيع بالمزاد العلني، وفقًا لمعيار المصلحة العامة والخاصة في المقابل، أثبتت التجربة أن اللجان، رغم حسن النية، عجزت عن توفير الحسم القانوني المنضبط، ما أدى إلى تأخير وتعطيل واحتقان في كثير من القضايا.
إن مراجعة التوجه التشريعي الحالي باتت ضرورة مُلحّة، لضمان انسجام التشريعات الإجرائية مع المبادئ الدستورية، وفي مقدمتها مبدأ الفصل بين السلطات، واستقلال القضاء، وحماية الحقوق إن إزالة الشيوع ليست إجراءً إداريًا عابرًا، بل هي قضية حقوقية بامتياز، لا تُعالج إلا في محراب العدالة.

زر الذهاب إلى الأعلى