
حين تلتهم الأزمات الاقتصادية روح المجتمع
د. نعيم الملكاوي | كاتب وباحث سياسي
في الأردن ، لا تعني الأزمة الاقتصادية مجرّد هوامش مقلقة في نشرات الأخبار أو رسومات بيانية صمّاء . هي في حقيقتها سلسلة أصفادٍ تكبّل المواطن من الراتب حتى القيم الأخلاقية والاجتماعية ، ومن جيب رب الأسرة إلى منسوب الثقة والانتماء الذي يتآكل بين الناس ومؤسساتهم .
فحين تقول الأرقام إن المديونية العامة تجاوزت 44.8 مليار دينار ( قرابة 117 % من الناتج المحلي)، فهذا ليس رقماً معزولاً عن البيوت . إنه يعني بالضرورة أن الأسرة الأردنية تدفع ثمن سوء التخطيط وضعف الحماية من تغوّل الأسعار — من فاتورة الكهرباء حتى ربطة الخبز — بينما يظل الراتب ثابتاً لا يواكب زحف الأسعار الذي لا يرحم ولا ينظر اليه التضخم بروح الشفقة مع غياب المشاريع الإنتاجية المولدة لفرص عمل افضل .
راتب يتآكل… وأسعار لا تخجل
منذ سنوات ، والمواطن يعيش مشهداً يتكرّر بلا نهاية : راتب محدود ، قروض تتضخّم، سلع أساسية تصعد على ظهر التضخم ، بينما يتوارى الأمل خلف شاشات التصريحات الحكومية المكررة .
التضخم الرسمي بلغ حدود 4 % العام الماضي 2024 بحسب بيانات دائرة الإحصاءات العامة ، لكنه أعلى من ذلك بكثير في تفاصيل الحياة اليومية . من يتسوّق في السوق أو يدفع فاتورة الكهرباء أو يقف عند مضخة الوقود ، يدرك أن الأرقام الرسمية مجرّد غلاف هشّ لحقيقةٍ مُرّة لا تعكس حقيقة المعاناة .
- في اخر تقرير لدائرة الإحصاءات العامة نقرأ :
” أصدرت دائرة الإحصاءات العامة تقريرها الشهري حول الرقم القياسي العام لأسعار المستهلك (التضخم) والذي رصد ارتفاعاً بنسبة 1.97 % للأشهر الخمسة الأولى من عام 2025 مقارنةً مع نفس الفترة من عام 2024 . أما على المستوى الشهري فقد ارتفع الرقم القياسي بنسبة 1.98 % لشهر أيار من عام 2025 مقارنة مع الشهر المقابل من العام الماضي ” انتهى الاقتباس .
شركات تتغوّل… وحكومات تتفرّج
في ظلّ هذا كلّه ، تقف شركات كبيرة — المحروقات ، الكهرباء ، الاتصالات ، المياه والبنوك — متربّعةً على فاتورة كل بيت ، ترفع أسعارها ونسب فوائدها وقتما تشاء ، ولا تردعها حكومةٌ تلو أخرى عن التمدّد على جيب المواطن .
أما التخطيط ؟ فيبدو أحياناً وكأنه أقرب إلى « مختبر » مُكلف ادواته جيب وقوت المواطن : قرارات تُفرَض ثم تُلغى حين تتبدّل الحكومات . ترفع حكومة ضريبة استيراد السيارات لتثقل ظهر السوق ، ثم تأتي اختها لتتراجع وكأن حياة الناس حقل تجارب .
أين الثقة من الرؤية الاقتصادية الشاملة ؟
البنوك… شريكٌ خفيّ في استنزاف الجيوب
لكن الأخطر أن المواطن امسى في قبضة بنوك ترى في القروض سوقاً مضموناً ، لا شريكاً في التنمية . فكلما رفع الفيدرالي الأمريكي نسبة الفائدة ، يسارع البنك المركزي الأردني إلى تقليدها بحجّة حماية الدينار، فتتضاعف أقساط القروض القائمة على المواطنين الذين لم يُوقّعوا أصلاً على قروض «عائمة» لتُلحق بها فوائد جديدة !
ثم إذا هبطت أسعار الفائدة عالميا ، تتلكأ بعض البنوك في خفض نسبها على القروض المستحقّة ، وتُبقي المواطن عالقاً في فخّ الديون طويلة الأمد ، بينما تتزايد أرباحها عاماً بعد عام . وتشير بعض التقديرات إلى أنّ أرباح بعض البنوك تجاوزت مليار دينار في سنواتٍ قليلة ، في بلد يعيش اكثر من نصف شبابه إمّا عاطلًا عن العمل أو مثقلاً بمديونيةٍ شخصيةٍ خانقة .
من الأرقام إلى الأخلاق … كيف تنهار المجتمعات من الداخل ؟
هذه الدوامة لا تحبس الأرقام فقط ، بل تخنق القيم كذلك . فالثقة ، تلك «العملة الأخلاقية» التي تحفظ المجتمعات من التصدّع ، تنزف مع كل فاتورةٍ متضخّمة ، وكل قسطٍ يلتهم الراتب . وما أن تضعف الثقة ، حتى يصبح التحايل على القوانين مقبولاً ، ويتراجع الشعور العام بالمسؤولية الوطنية .
إنه الانهيار الذي لا يُقاس بالدولار ولا بالدينار ، بل يُقاس في أخلاق الناس وأعصابهم المثقلة ، وفي الشباب الذين فقدوا إيمانهم بأن النجاح يأتي من الكدّ والجدّ ، لا من الحظّ أو العلاقات المبنية على المحسوبية .
إعادة بناء الثقة… هل من سبيل ؟
الأرقام وحدها لن تنقذنا . الإصلاح المالي لا بدّ أن يرافقه إصلاحٌ أخلاقي وقانوني يحمي المواطن من تغوّل الشركات والبنوك على جيوبه ، ويُعيد تخطيط القرارات الاقتصادية بعيداً عن مراهقة العبث والتجريب .
الثقة لا تُبنى بخطاباتٍ ووعودٍ موسمية واستعراضات كاميراتية ، بل بخططٍ واضحةٍ وثابتة لا تترك الناس رهناً للتقلّبات ولا أسرى لحيتان السوق . إنّها معادلة بسيطة : كل أزمة اقتصادية إن لم تُدار بضميرٍ وعدالة ، تتحوّل إلى أزمةٍ أخلاقية تهزّ اركان مجتمعاً بأكمله .
الثقة هي العملة الوحيدة التي إذا تراجعت… أفلس الجميع …
وحين تهتزّ القيم … لن ينفعنا صندوق النقد ولا أسعار الفائدة .