أقلام حرة

في حضرة الصراخ والعتمة : حين يستنسخ القطيع وجوهه

د. نعيم الملكاوي

في ركنٍ معتمٍ من ذاكرة البلاد ، يقف شيخٌ أشيبُ الشعر جهوري الصوت ، منتصباً كجذع شجرةٍ ضربتها الرياح ألف مرة ولم تنكسر مع بعض من الانحناء طال شموخه .

يصرخُ في وجوهٍ مستنسخة ، متشابهةٍ الى حدّ الرتابة ، كأنها أُنتجت من قالبٍ واحد ، ثم أُعيد صبّها في قوالب أخرى ليكتمل مشهد القطيع البشري الذي لا يتكاثر إلا على صورة الأصل .

حال قوله ما عجزت عنه خُطب السياسيين وتقارير المراقبين الدوليين . لا تحتاج إلى تعليقٍ طويلٍ لتدرك أن الأصوات الحرة اليوم تُحاصَر في غرفةٍ صغيرةٍ باردةٍ لا يدخلها ضوء . هناك يقف الميكروفون وحيداً ، أداةً حياديةً بلا ضمير ، ينقل صرخة الشيخ الغاضب إلى قاعةٍ فارغة ، أو ربما إلى عقولٍ صمّاء اختارت ألّا تسمع .

في تفاصيل الرسم ما يكفي لكتابة تاريخٍ موجزٍ لمجتمعاتٍ أتقنت صناعة النسخ البشرية :
ثلاثة رجالٍ بربطات عنقٍ حمراء يجسدون فريقاً من المصالح المشتركة ، ينظرون إلى الشيخ بملامح متبلدة ، يتظاهرون بالإنصات عقولهم صماء . أيديهم معقودةٌ بإحكام ، كأنها تقبض على أسرارٍ لن يبوحوا بها لاحد ، أو ذنوبٍ لن يعترفوا بها لقاضي . إنهم يشبهون بعضهم حدّ العمى ، فلا تعرف مَن فيهم الفاسد ومَن فيهم الأكثر فساداً ومن فيهم من يرعى الفساد .

يظل إصبع الشيخ المرفوع علامة تعجبٍ عالقةٍ في الهواء ، يلوّح بها كتذكارٍ قديمٍ من زمنٍ كان فيه للصوت معنى ، وللمواجهة هدف وللحضور مكانته . لكن ، مَن الذي يسمع صوتاً وحيداً في زمنٍ تحكمه جوقةُ الصمت والتماهي ؟

وكيف لأصابعٍ مرتعشة أن تهدم جداراً شُيّد من الوجوه المكررة والضمائر المعلّبة والمصالح المشتركة ؟

هذا ما يُعلّمنا إياه الرسم أن الفساد ليس دوماً قراراً فردياً ، بل قد يتحوّل إلى نمطٍ جمعيٍ كامل
وبيروقراطيةٌ عمياء ، تفرخ مسؤولين متشابهين كالدُمى ، يكرّرون الأكاذيب نفسها ويُسمّونها سياسة ودبلوماسيا .

كياناتٌ تصنع القطيع ، ثم تخشى أن يتمرد عليها في ظلال مرياعها الأعمى فتعود لتأكلها كجاهلية هُبل .

أصواتٌ حرةٌ تُقصى ، لتبقى للمنبر ميكروفوناتٌ بلا صوت ، ونداءاتٌ بلا صدى .

وحده الشيخ – أيّاً كان اسمه – يُدرك أن صوته سيضيع في ظلمات الصمت ودهاليز الفساد ، لكنه يبقى يصرخ لأن الصمت جريمةٌ أكبر .

يصرخ لأن الصراخ آخر ما تبقّى له من معنى وكرامة . يصرخ لأن التاريخ يُكتب دائماً بدماء المتمرّدين لا بصمت المستنسخين .

ربما سيرسم الفنّان يوماً ما كاريكاتيراً آخر : شيخاً بلا إصبعٍ مرفوع ، أو جمهوراً بلا وجوهٍ مستنسخة او كراسي فارغة لا تجد من يحتلها .

حتى ذلك الحين ، ستظلّ هذه الصورة شهادةً حيّةً على زمنٍ قرّر فيه القطيع أن يستنسخ نفسه ، وأن يُذبح العقل الحرّ كلّما رفع إصبعه في وجه العتمة بصوته المبحوح .

زر الذهاب إلى الأعلى