
تركيا وحزب العمال الكردستاني : مصالحة على حافة السلاح
د. نعيم الملكاوي
على أطراف جبال قنديل ، حيث ما زال الجليد يختزن أسرار الدم والعناد ، تتكشّف اليوم لحظة فارقة في مسيرة الصراع المزمن بين الجمهورية التركية والمتمردين الأكراد من حزب العمال الكردستاني (PKK) . عقود من التمرد والدم وعمليات الكرّ والفرّ عبر الحدود السورية والعراقية والتركية ، تنحني أخيراً أمام طاولة تفاوض لا تزال خشبتها ترتعد من ثقل الماضي ووعود الحاضر .
منذ 1984، حين حمل عبد الله أوجلان ومقاتلوه السلاح ، لم تعرف تركيا هدوءً مستداماً في شرقها المضطرب. بين هدنة هشة وأخرى منهارة ، أُهدرت آلاف الأرواح على مذبح الهوية والإنكار . شهدت أنقرة محاولة سلام يتيمة بين عامي 2013 و2015 ، بلغت ذروتها عندما اجتمع وفد الحكومة التركية بوساطة أوجلان داخل سجن إمرالي ، وبدأت خطوات حذرة لنزع السلاح التدريجي .
لكن كل شيء انهار في صيف 2015 ، حين وقع تفجير ” سوروج ” المروّع قرب الحدود السورية ، مستهدفاً تجمعاً من الشباب الأكراد المتضامنين مع كوباني ، ما أوقع 33 قتيلاً وأكثر من 100 جريح . لم يقتصر الأمر على التفجير وحده ، إذ تصاعد الغضب الشعبي الكردي باتهام الحكومة بالتواطؤ مع تنظيم داعش . وفي خطوة انتقامية صادمة ، اغتال مقاتلو حزب العمال الكردستاني شرطيين في بلدة ” جيلان بينار ” قرب شانلي أورفا ، متّهمين إياهما بالتعاون مع داعش . ومن هنا تهاوت هدنة الأعوام السابقة ، لتُبعث من جديد حرب الجبال والأنفاق ، وتعود الدبابات إلى شوارع ديار بكر وشرناق وسيرت ذات الأغلبية الكردية .
غير أنّ شيئاً مختلفًا دبّ في عصب العلاقة مطلع خريف 2024 . أطلق حزب المساواة والديمقراطية الكردي (DEM) مبادرة مفاجئة لإعادة أوجلان إلى قلب المشهد التفاوضي ، هذه المرة بوساطة مركّبة شملت الحزب القومي التركي ذاته (MHP)، الذي طالما اعتبر أي حوار مع المتمردين خيانة للوطن .
في مشهد بدا غريباً على الذاكرة التركية ، اجتمع وفد (DEM ) ثلاث مرات في جزيرة إمرالي مع الزعيم الكردي المسجون . في 27 فبراير 2025 ، خرج أوجلان بتوجيه علني نادر : « حلّوا الحزب … ألقوا السلاح … وافتحوا الطريق لمستقبل سياسي مشروع » . كان البيان أكثر من إعلان نوايا ؛ إنه تفكيكٌ لأعتى حركات التمرّد المسلّح في الاقليم عبر إرادة قيادية مركزية ما زالت تمسك بخيوط الولاء من خلف القضبان .
في الأول من أذار / مارس، أعلن PKK وقف إطلاق نار من جانب واحد ، ثم عقد مؤتمره الثاني عشر في نهاية أيار/ مايو ليصادق على قرار « نزع السلاح والحل » . وكأن عقارب الحرب التي توقفت يوماً عادت إلى الدوران في اتجاه عكسي . شهدت جبال السليمانية مراسم رمزية هي الأولى من نوعها : حيث قام 30 مقاتلاً بحرق أسلحتهم في حفرٍ ترابية وبراميل ، تحت أنظار ممثلين أتراك وعراقيين .
ومع ذلك ، لم يخلُ المشهد من تعقيد . فالحكومة التركية سارعت إلى تشكيل لجنة برلمانية تشرف على الخطوة ، متعهدة بإعداد إطار قانوني يتيح دمج المنشقين وضمان ” حقوق موسعة للأكراد ” كما وصفتها بعض الأوساط . لكن شياطين التفاصيل ما زالت كامنة في الأسئلة الكبرى :
هل سيفرج أردوغان عن أوجلان كما يطالب الأكراد ؟
هل سيُسمح لحزب المساواة والديمقراطية بالتمدد دون مطاردة أمنية كتلك التي أغلقت مقرات HDP سابقاً ؟
وكيف سيعالج البرلمان مسألة اللغة الكردية والتعليم والدستور ؟
الأكيد أن هذه الانفراجةُ ليست مجرد مناورة داخلية في زمن أزمات اقتصادية عميقة وشرعية انتخابية تتآكل . يدرك أردوغان ، الذي يطمح إلى تمديد ولايته حتى ما بعد 2028 ، أن كسب أصوات 30 نائباً كردياً قد يكون ورقته الذهبية لإقرار تعديلات دستورية معقدة . لكن الأكراد بدورهم يدركون أن أوراق التفاوض مع الاتراك لا تُعطى مجاناً ، وأن تجربة 2015 ، بما حملته من مرارة وانكسار ، تحرسهم من أي سذاجة سياسية.
أما خارج الحدود ، فتراقب بغداد وأربيل ودمشق عن كثب . ففي شمال العراق ، تظل معسكرات PKK هدفاً مشروعاً لسلاح الجو التركي رغم طقوس التسليم الرمزية ، بينما تتحرك أنقرة لتفكيك أذرع الحزب داخل سوريا خشية إعادة تدوير المقاتلين إلى وحدات حماية الشعب وقوات قسد .
وسط هذا التشابك ، يقف ملف المصالحة الكردية على خيط رفيع بين الأمل والانتكاس . فنجاح نزع السلاح وتفكيك البنية الميدانية سيكون انتصاراً مزدوجاً للدولة التركية والأكراد الساعين لشرعية سياسية داخل المؤسسات . أما الفشل أو التباطؤ ، فسيعيد خريطة الصراع إلى نقطة الصفر ، وقد يفرز جيلاً جديداً من الفصائل المنشقة التي لا تعترف بتعليمات أوجلان ولا بوعود الدولة .
في النهاية ، تبدو اللحظة مرهونة بسؤال واحد : هل يستطيع الأتراك والأكراد أن يكتبوا معاً فصلاً جديداً من تاريخ بلاد الأناضول ، يطوي صفحة التمرّد المسلّح دون أن يُعيد إنتاجه في صورة أخرى ؟
إن الإجابة لا تسكن مكاتب المفاوضات ولا ادراج الماضي وحدها ، بل تنتظرها الجبال التي ما زالت تحفظ بين شقوقها رائحة البارود وصدى الوعود المؤجلة .