
في زمن مهزلة المهزلة : حين يعربد العبث وتغيب الضوابط
د. نعيم الملكاوي
في هذا الكوكب المتصدّع بالصراخ والدم والاقليم المشتعل بمهازل كي الوعي الجمعي ، لم نعد شهوداً على الانهيار… بل أصبحنا جزءاً من مهرجان عبثيّ تتقاطع فيه الدماء بالصفقات ، وتتناوب فيه الأمم على أداء أدوار التهريج السياسي والجيوستراتيجي .
الشرق الأوسط ، هذا المسرح المفتوح على الجراح ، لم يعد يحترق فقط … بل يُدار كعرض كاريكاتوريّ أبطاله لصوص ومهرّجون بربطات عنق . لا ضوابط تضبط ، ولا رادع يردع ، ولا عقلاء يُصغى إليهم.
لقد انقلبت المعايير حتى غدت الغطرسة سياسة ، والخيانة دهاء ، والصمت حكمة ، والجنون ” رؤية استراتيجية ” .
في هذا الزمن المعطوب ، لم نعد نعيش الفوضى … بل نُدار بها . العالم لا يتجه نحو المجهول ، بل يسير بخطى حثيثة إلى هاوية يعرفها جيداً ، لكنه يصفّق لها ، ويدّعي أنها ” عصر جديد ” .
الشرق الأوسط في قلب هذا العبث ، لم يعد كضحية فقط ، بل كمنصة لعرض ” مهزلة المهزلة ” أمام جمهور فقد البصر والبصيرة معاً .
نحن نعيش مرحلة ما بعد المنطق ، حيث باتت الغطرسة قانوناً غير مكتوب ، والدبلوماسية قناعاً للتآمر على الشعوب ، والحروب مشروعاً استثمارياً ، والدماء مجرد تفصيل إحصائي في نشرات الأخبار . دول تُباد ، وشعوب تُنسى ، ومدن تُقصف تحت شعارات الأمن والسلام ، بينما المجرم يجلس على مقعد الشرعية ، ويُمنح الأوسمة .
غزة تُقصف وتباد منذ شهور، والعالم يُجري “مفاوضات” حول آلية إيصال الطحين لمن بقي تحت الأنقاض . سوريا يعبث في مكوناتها ، واليمن بات جرحاً صامتاً ، ولبنان يتنفس على جهاز تنفس إقليمي ، والعراق يئن بين مطرقة الاحتلال الأمريكي وسندان الهيمنة الإيرانية ، والسودان يتم غربلته بأزيز السلاح ، وليبيا لم يرسم لها قرار ، بينما يُطلب من الشعوب أن “تؤمن بالإصلاح”. أما الأردن ، فيقف على حافة التوازن الحرج ، يتلقى رياح الشرق والغرب ، ويُطالب بالهدوء وحلول العقلنة ، حتى وهو في قلب العاصفة محاولاً درء رمالها عن الجميع .
أما الفاعلون الكبار ، فهم يمارسون السياسة كأنها لعبة شطرنج ، يُضحّون بالعسكر مقابل الوزير ، ويوقّعون اتفاقات علنية، ويُديرون مؤامرات سرية.
الولايات المتحدة تُقدّم نفسها حامية للديمقراطية ، بينما تُسلّح الأنظمة المستبدة وتدعم الاحتلالات ، وروسيا ترفع راية “التحرر من الغرب” ، لكنها تدك المدن بالبراميل والصواريخ . أوروبا تائهة بين أخلاقياتها الباردة ومصالحها الدافئة ، لا تقوى على قول “لا” ، ولا تعرف متى تقول “نعم ” .
وفي قلب هذا المشهد ، تبرز إسرائيل كمثال فجّ للغطرسة المنفلتة من كل قيد . تضرب ، تقتل وتقصف ، وتزعم أنها تدافع عن نفسها وامنها ، بينما تفتح عواصم العرب أبوابها لتُفرش لها السجّاد الأحمر ، وتُعزف لها الأناشيد التي كانت يوماً تُخصّص لاستقبال القادة الفاتحين .
أين الضوابط ؟ من يُحاسب من ؟ من بقي ليرفع صوته دون أن يُتّهم بالإرهاب ، أو يُسجن بتهمة “إثارة الفتن” ؟
لقد تحوّلنا إلى كائنات تشاهد الكارثة ، وتناقشها بلغة الحياد ، كأننا لا ننتمي لهذا الكوكب ، وكأن الدم الذي يُسكب لا يعنينا.
إنها مهزلة … لا ، بل مهزلة المهزلة ، حيث لم يبقَ شيء إلا وانهار : النظام ، القيم ، اللغة ، وحتى المنطق .
صار للجنون منابر ، وللخيانة رايات ، وللعار وجوه تُبتسم في المؤتمرات .
ربما لا زال هناك زمن للحظة صحو ، وربما لم يعد .
فالعالم لا يحتاج اليوم إلى مزيد من القرارات ، بل إلى قليل من الضمير والمواقف .
نحن لا نعيش فقط في عصر بلا رادع … بل في زمن يرقص فيه الباطل على جثث المعاني ، وتُصفّق له جماهير استُلب منها الحسّ ، وصودرت منها الكرامة .
فهل يبقى شيء في هذا الركام يُمكن البناء عليه ؟
أم أنّ هذا الكوكب اختار أن يُصفّي حسابه مع تاريخه ، ويبدأ عصراً جديداً ، لا مكان فيه إلا للأقوياء … حتى لو كانوا مجانين بلا ضمير ؟