
الأردن : توازن العاقل في زمن الاختناق الإقليمي
د. نعيم الملكاوي
الإقليم الذي بات يُدار بالنار والصفقات ، لا تزال هناك دول تمشي على الحافة ، لا تملك ترف الصراخ والعويل ، ولا تملك خيار الانكفاء .
الأردن ، هذه الدولة التي وُضعتها جغرافيتها على فوهة الأزمات ، وتمتد حدودها على شرايين النزاع العربي ، لم تعد تملك رفاهية الانتظار ، لكنها في الوقت نفسه لا تُغامر بالمجهول .
لا يُعلن نفسه حَكماً في الملعب ، لكنه حاضر في كل لحظات الحدث ، وفي كل فرصة تهدئة ، كأنه ” الصوت العاقل في زمن العبث ” .
بين المحاور… وتحت المجهر ، لعب الأردن لعقود طويلة على حبال التوازن وحافة السيف دوراً رائداً من الدبلوماسية الذكية ، ونجح ـ حتى اللحظة ـ في البقاء خارج الاصطفافات الحادّة ، رغم انغماسه العميق في المشهد الإقليمي .
فمن جهة ، هو حليف للولايات المتحدة ، ملتزم بمعاهدات السلام ، منفتح على الغرب ، متزن الأداء ، ومن جهة أخرى ، لا يستطيع الانفكاك عن محيطه العربي الملتهب ، ولا عن الممرات الأمنية والاقتصادية التي تمرّ عبره وتفرض عليه معادلات غير قابلة للتهرّب .
وفي خضمّ التغيّرات ، حافظ الأردن على ما يمكن تسميته بـ” الحكمة الدفاعية والعقلنة الرادعة ” التي يفتقدها غيره ؛ فهو لا يتورط ، لكنه لا يتراجع . لا يتقدم نحو الاستفزاز ، لكنه لا يسكت أمام التهديد .
الجغرافيا التي لا ترحم ، أن تكون جاراً لفلسطين المحتلة ، ولسوريا المنهكة ، وللعراق المُمزق ، يعني أنك أمام معادلة لا يُمكن كسرها : إما أن تُتقن فنّ التوازن ، أو أن تندرج في طابور الصراع .
الأردن اختار منذ البداية طريق السيطرة الهادئة ، رغم ضغط الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا .
فكل حريق يُشعل المنطقة يترك رماده على ثوبه ، وكل عبور للدمار يمرّ عبر حدوده . ومع ذلك ، لا تزال عمان واقفة شامخة ، تتنفس ببطء ، وتقرأ بعين الشكّ كل ما يدور بيقين وبوعي قيادة لا تلين .
القضية الفلسطينية… هوية لا تقبل التفاوض ، في زمن يُغني فيه كثيرون على ألحان التطبيع ، ويُفتّشون في ” الهندسة الإقليمية ” عن مستقبل لهم بلا فلسطين ، يرفض الأردن أن يكون جزءاً من تلك المتاهة .
الوصاية الهاشمية على القدس ليست مجرد ملف سيادي ، بل امتداد لهوية سياسية وروحية وأخلاقية . الأردن يُدرك أن ” حلّ القضية ” وفق المعايير الدولية الجديدة يعني إلغاءه المعنوي قبل الجغرافي وقد تصل الى محاولة التعدي على هويته التاريخية المتجذرة وسيادته .
لذا ، فإن صمته أحياناً ليس ضعفاً ، بل حساب دقيق لخطورة الإفصاح في وقت الافتراس ، ولسان حاله يقول : ” الهدوء ليس قبولاً … بل رفض لا يريد أن يُقال بصوت مرتفع ” .
في مشهد النار بين إيران وإسرائيل ، حين اشتعلت السماء مؤخراً بين طهران وتل أبيب ، لم تكن عمان بعيدة عن الحسابات . الحدود الشمالية ارتجفت ، والطائرات المسيّرة مرّت ، والخرائط الاستخباراتية تغيّرت .
لكن ، وكما اعتاد ، لم يدخل الأردن في بيانات التحدي بين الأطراف ، ولا في مناورات الصوت العالي . اكتفى بالمراقبة الميدانية الدقيقة ، ورفع درجة الجاهزية ، والتعامل مع ” التهديد ” كرجل مطافئ يقف بجانب برميل بارود لا يملكه ، لكنه يعرف جيداً متى وكيف ينفجر وكيف يتعامل مع أثاره .
وأما الوضع الاقتصادي … في ظل المعركة الصامتة ووراء كل المواقف السياسية الهادئة ، تقف أزمة اقتصادية صاخبة لا تغيب عن المشهد .
فالأردن محاصر بديونه ، مرتهن بتمويله ، ومتأرجح بين إصلاحٍ يوجع ، واستقرارٍ لا يحتمل المفاجآت .
لكنه رغم كل ذلك ، لم يُفرّط بأولوياته الكبرى ، ولم يمدّ يده لمن يحاول شراء المواقف .
اختار أن يدفع الثمن الاقتصادي على أن يخسر ثوابت السياسة ومواقفه التاريخية ، حتى لو بدا ذلك صمتاً لمن لا يفهم معنى الصبر الاستراتيجي وفن إدارة الممكن .
حين يسير العقل وسط الجنون والانفلات ، في زمنٍ تُدار فيه السياسات بالكاميرات والطائرات المسيّرة ، وتُرسم الخرائط على موائد السماسرة ، يظهر الأردن كحالة استثنائية :
لا يملك سلاح الردع النووي ، ولا شبكة الغاز العابرة للقارات ، ولا ثروات تغري بالولاء ، لكنه يملك شيئاً آخر… ” بوصلة العاقل في زمن الجنون ” .
الأردن دولة لا تصنع الزلازل ، لكنه يعرف كيف يقرأ ارتداداتها ، ولا مركزاً للقرار العالمي ، لكنه يعرف أين يقف من كل عاصفة ، ومتى يلوّح ، ومتى يصمت ، ومتى يُعلن أن الخط الأحمر ليس فقط بالأمن … بل بالكرامة .
فهل ينجح الأردن في الحفاظ على توازنه وسط الزلازل القادمة ؟
أم أن خريطة الإقليم الجديدة ستجعل من الصمت ترفاً ، ومن الحياد خيانة ، ومن التوازن ضعفاً ؟
ربما لم يُكتب بعد الجواب …
لكن الأكيد أن الأردن لم ينسَ كيف يُصغي لصوت العقل ويدير بوصلته … في زمنٍ لم يعد العقل فيه مسموعاً ، فلقد حباه الله بشعب يعرف كيف يلتف حول العقلنة بقيادته الواعية .