أقلام حرة

مهرجان جرش: حين تمتزج البرامج الثقافية والفنية بروح وطنية وإبداع إنساني

محمد علي الزعبي

في قلب المدينة الأثرية التي صمدت أمام عوادي الزمن، وفي مسرحٍ كتب عليه التاريخ فصولًا من المجد، عاد مهرجان جرش ليضيء ليالي الأردن من جديد، حاملاً معه عبق الفنون، ونبض الإبداع، وروح الانتماء. لم يعد المهرجان مجرّد تظاهرة فنية، بل أصبح حدثًا وطنيًا عابرًا للفن التقليدي، تتشابك فيه خيوط الثقافة والفكر والهوية، في مشهدٍ يحتفي بالأردن كما يليق به، وطنًا وشعبًا ورسالة.

هذا العام، جاءت برامج مهرجان جرش أكثر توازنًا وشمولًا، حيث امتزجت الفعاليات الفنية الرفيعة بالعروض الثقافية الأصيلة، فتقاطعت نغمة العود مع قصيدة الوطن، وتماهى صوت المطرب مع صوت الحكّاء الشعبي، وتجمّلت المسارح بحناجر عربية وعالمية ناطقة بالحب، والسلام، والانتماء الإنساني. في كل ليلة، كان المسرح الجنوبي يفيض بالحضور، لا من أجل الطرب فقط، بل من أجل الطقوس الجمعية التي تعيد للأردنيين لحمتهم، وتبعث فيهم الأمل. فالفن الذي يقدّمه المهرجان لم يكن يومًا ترفًا عابرًا، بل صوت الوطن النابض، وهمس الأرض، ورمز التجذر والانتماء. الأصوات التي ارتفعت على مسارح جرش، لم تكن مجرد أداء غنائي، بل رسائل وجدانية حملت في كلماتها الوفاء للأردن وتاريخه ورجالاته.

أما في فضاءات الحروف والفكر، فقد أثبت المهرجان أن الثقافة في جرش ليست هامشًا أو فقرةً تكميلية، بل جوهر أصيل يعكس وجه الأردن الحضاري. فقد تنقلت الكلمة على ألسنة الشعراء، وتحركت الفكرة في سطور الأدباء، واحتضنت المسارح أمسيات حوارية وندوات فكرية عكست العمق الثقافي العربي، وأظهرت المكانة التي يحتلها الأردن كمنصة للفكر والإبداع والتنوير.

ولعلّ التنوع الجغرافي والثقافي الذي حضر بقوة في هذه الدورة قد شكّل لوحة فسيفسائية تعكس الهوية الأردنية الجامعة، حيث حضرت كل المحافظات بتراثها وأزيائها ولهجتها وألوانها، فأحيا المهرجان أصالة المكان، وكرامة الإنسان، وعدالة التمثيل الثقافي من الشمال إلى الجنوب، ومن البادية إلى الجبل.

ولأن الفن الحقيقي لا يعرف حدودًا، جاءت برامج المهرجان محمّلة برسائل إنسانية نبيلة، دعمت قضايا العدالة ووقفت مع الإنسان المقهور في كل مكان، لتُثبت مجددًا أن جرش ليس مجرد حدث محلي، بل منصة ثقافية إنسانية عابرة للحدود، تنطق بلغة الفن والكرامة والسلام.

وفي الخلاصة، فإن مهرجان جرش لم يكن هذا العام مجرد فعالية ترفيهية موسمية، بل كان ملحمة وطنية وإنسانية، تداخل فيها الفن مع الفكر، والقصيدة مع العود، والرقصة مع الدعاء، ليؤكد أن الثقافة في الأردن ما تزال بخير، وأن الفنون حين تُروى من نبع الوطن، تصبح فعل مقاومة، وذخيرة وعي، وبوصلة حضارية لا تخطئ الطريق.

زر الذهاب إلى الأعلى