
من عصر الورقنة الى عصر الرقمنة : تحوّل لا يُرى
د. نعيم الملكاوي / كاتب وباحث سياسي واجتماعي
في زمنٍ ليس ببعيد ، كانت غرف انتظار العيادات أشبه بصالات قراءة مصغّرة . طاولةٌ مستديرة تتوسّط المكان ، تتناثر فوقها مجلاتٌ طبية وفنية وصحفٌ يومية ، وكأنها دعوة مفتوحة لقتل الوقت بلطف . كان للانتظار آنذاك طقوسه ، وللتواصل الإنساني فسحته : تبادلُ أحاديث قصيرة ، أو نظرة قلقٍ مشتركة ، أو حتى ابتسامة تتسلل وسط الصمت .
أما اليوم ، فقد تغيّرت الصورة بالكامل . دخلت الهواتف الذكية إلى المشهد ، وجعلت من كل فرد جزيرةً مستقلة . لا مجلات ، لا صحف ، ولا أحاديث جانبية . فقط رؤوسٌ منحنية نحو شاشات مضيئة ، وعقولٌ تسبح في عوالم رقمية موازية .
ولعلّ أكثر ما يدفعني الآن لكتابة هذا المقال ، هو أنني أجلس في هذه اللحظة في غرفة انتظار عند طبيب الأسنان ، تحيط بي ثمانية كراسي ، يجلس عليها ثمانية مرضى … وكل واحدٍ منهم غارقٌ في بحر هاتفه ، دون أدنى تفاعل مع من حوله وكأن الشعور بالمحيط تلاشى . مشهد حيّ يختصر التحوّل الجذري الذي نعيشه دون أن نشعر .
تغيّر اجتماعي فرضته التكنولوجيا ، إنّ ما نشهده اليوم لا يُعدّ مجرّد تبدّل في العادات ، بل هو تحوّل اجتماعي عميق فرضته الثورة الرقمية . الهواتف الذكية لم تُعد وسيلة اتصال فقط ، بل أصبحت امتداداً للذات ، ومساحة للهروب ، ومخزناً فورياً للمعرفة واللهو معاً . وبينما كان الانتظار سابقاً يُقضى في تقليب صفحات ورقية ، بات يُستهلك بالتمرير عبر محتويات لا تنتهي .
فلكل تحول إيجابيات ظاهرة… وسلبيات خفية ، لا شك أن هذا التحوّل جلب معه فوائد لا يُمكن إنكارها . فقد بات بإمكان المريض أن يستثمر وقته في الاطلاع على الأخبار الطبية التي قد تساعده في معرفة حالته الصحية بشكل اوعى ، أو قراءة الكتب الرقمية المفيدة ، أو حتى مراجعة ملفه الصحي عبر التطبيقات الحديثة . كما خفّ التوتر لدى البعض ، ووجدوا في الهاتف وسيلة لإشغال الذهن عن القلق أو الألم .
لكن الوجه الآخر للمشهد أكثر تعقيداً. لقد غابت الحميمية ، وتقلّصت فرص الحوار والتعارف ، وأصبح الانتظار حدثاً فردياً بامتياز . العزلة الرقمية التي يُغرق فيها الفرد نفسه ، أضعفت اللحظة الإنسانية المشتركة ، وسرّبت إلى المشهد برودةً شعورية ، وإن بدا في ظاهره أكثر ” تقدّماً ” وانشغالاً .
سيناريوهات المستقبل : إلى أين ؟
إذا استمر هذا الاتجاه ، فقد نشهد مستقبلاً غرف انتظار أكثر رقمية : شاشات عرض فردية ، وسماعات في كل زاوية ، وربما تطبيقات مخصصة لتنظيم الدور وتقديم التوجيهات الصحية . لن يعود للمكان صوت بشري مسموع ، بل سيمتلئ بصمت رقمي مريب .
لكن على الجانب الآخر ، قد تُعاد صياغة مفهوم الانتظار من جديد . ربما تظهر دعوات لإعادة دفء التواصل الإنساني في هذه المساحات ، عبر أنشطة بسيطة أو حتى إعادة المجلات الورقية كرمزٍ للحضور الإنساني . فالبشر ، رغم كل شيء ، ما زالوا يبحثون عن لحظة صدق ، أو تواصل صامت يُشعرهم بأنهم ليسوا وحدهم وانهم كائنات موجودة ومتفاعلة مع المحيط .
بين التقدّم العصري والاغتراب الإنساني ، غيّرت التكنولوجيا ملامح الانتظار ، لكنها لم تُلغِ حاجة الإنسان إلى القرب من الاخر . وفي زمنٍ تتسع فيه شبكة الاتصالات ، يضيق فيها مجال العلاقات . ولعلّ التحدي اليوم ليس في رفض التكنولوجيا ، بل في ترشيد استخدامها ، واستعادة التوازن بين أن ” نكون متصلين بكل شيء ” ، وأن ” نكون حاضرين حقاً مع من حولنا ” .
إنه اختبار جديد يواجه الإنسانية : في أن نحيا داخل عصر الشاشات دون أن نخسر ملامحنا الإنسانية في الطريق الى المستقبل فالقادم اكثر شدة وضراوة .