
توجيه البوصلة نحو الحقيقة: غزة والمقاومة في زمن الالتباس
د.ناصر أبو رمان
في خضمّ الأحداث العاصفة التي تجتاح المنطقة، وتحت وطأة الجوع والحصار والقصف والخذلان، تتجلّى مأساة غزة لا كحادثة معزولة، بل كصورة متكررة من سجلّ طويل من النضال، تخوضه الشعوب المقهورة في مواجهة قوى الاحتلال والاستعمار والاستبداد. وبين أنين الضحايا وصمت المتفرّجين، تكاد البوصلة أن تضلّ طريقها، ويكاد الوعي أن يُختطف، ما لم نُعد النظر إلى جوهر القضية: الحق في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
كثر اللغط، وتاهت الحقيقة بين سطور التحليلات العقيمة وموجات التضليل الإعلامي، حتى باتت المقاومة، التي كانت رمزًا للفخر الوطني والضمير الإنساني، محلّ جدل ومزايدة واتهام. فهل بات الدفاع عن الأرض المحتلة جريمة؟ وهل أصبحت صرخة المظلوم موضع مساءلة، بينما يُمنح المحتل صكوك الغفران والتبرير؟
إن المقاومة، بكل تجلّياتها، هي فعل مشروع ومقدّس في وجه الاحتلال، كفله ميثاق الأمم المتحدة، وأقرّته الأعراف الدولية، وأثبتت التجربة التاريخية أنه السبيل الوحيد لانتصار الشعوب المستضعفة. ولا يمكن فصل ما يحدث في غزة عن هذا السياق العام. فغزة ليست مجرد بقعة جغرافية محاصَرة؛ بل هي عنوان للكرامة، ومرآة لوجه العالم الحقيقي، بكل ما فيه من تناقضات أخلاقية ومواقف مزدوجة.
ومع اشتداد الحصار، وبلوغ المجاعة مراحل كارثية، بات الصمت العالمي شريكًا صريحًا في الجريمة. فالمجاعة التي تُرتكب اليوم بحق سكان غزة ليست أزمة عابرة، بل جريمة ممنهجة، تُستخدم فيها سياسة التجويع كسلاح لإخضاع شعب بأكمله. يموت الأطفال جوعًا، وتُحاصَر المساعدات، وتُمنع الإغاثة، فيما يكتفي العالم بالمشاهدة الصامتة أو البيانات الرمادية.
إن الضمير الإنساني أمام اختبار حاسم. فإما أن ينهض ويتحرك لوقف المجاعة ورفع الحصار، وإما أن يبقى متواطئًا بالصمت، شريكًا في جريمة ستُلعن في كتب التاريخ.
من هنا، فإن إعادة توجيه البوصلة الفكرية والأخلاقية في هذا الزمن الملتبس، باتت ضرورة لا خيارًا. وذلك عبر:
1. نشر الوعي الحقيقي: لا يكفي التعاطف العاطفي، بل لا بد من الفهم العميق لجذور الصراع، وتاريخ الاحتلال، وآليات تغييب الحقيقة، حتى لا نقع فريسة للروايات المضلِّلة.
2. فضح التزييف الإعلامي: أصبحت الكلمة والصورة جبهات نضال بحدّ ذاتها، وعلى كل صاحب ضمير أن يستخدم أدواته لكشف الزيف وإعلاء الحقيقة.
3. الدفاع عن الحقوق بلا مواربة: إن النضال من أجل الحرية والكرامة ليس وجهة نظر، بل واجب أخلاقي وإنساني، لا يحتمل المساومة أو الحياد.
4. الانحياز للشعوب لا للأنظمة: فقد أثبت التاريخ أن الشعوب وحدها هي من تصنع التغيير وتدفع ثمن التحرر، لا الحكومات ولا المصالح العابرة.
نعم، الطريق نحو الحرية مليء بالألم، وقد يدفع الأبرياء الثمن الباهظ، ولكن دروس التاريخ علّمتنا أن الحق لا يُهزم، وأن إرادة الشعوب لا تنكسر، وأن فجر الحرية، وإن تأخّر، لا بد أن يُشرق.
فلنُعد البوصلة إلى مسارها الصحيح، ولنجعل من صوتنا صدىً لصوت المظلوم، لا كمنّة، بل كواجب، لا بدافع السياسة، بل بدافع الإنسانية. فغزة اليوم ليست مجرد مدينة تقاتل، بل هي اختبار حيّ للضمير العالمي بأسره، وإرث مقاومة لن يُمحى، مهما اشتدّ الظلام.