
دم الطفيلة وهمّ الوطن: قصة م. منار المحاسنة
أ.د. بيتي السقرات / الجامعة الأردنية
في مسيرة الحياة، كثيرًا ما نلتقي بأشخاص يتركون بصمة لا تُمحى. ومن بين هؤلاء امرأة أردنية جمعتني بها روابط الدم والانتماء؛ دم محافظتنا التي نعشق ترابها ونتمنى كل الخير لأهلها، “الطفيلة”، وهمّ الوطن الذي نحمله جميعًا في قلوبنا، نعيش أفراحه، ونكافح من أجل مستقبله.
أتحدث هنا عن المهندسة منار المحاسنة، التي كانت وما تزال مثالًا للمرأة الأردنية الطموحة، المخلصة، المثابرة. تحمل في شخصيتها مزيجًا فريدًا من الهدوء المهني والحزم الإداري، وقد عملت بإيمان عميق بأن الاجتهاد والضمير الحي هما الطريق الحقيقي لخدمة الوطن.
شغلت منار منصب أمين عام سلطة وادي الأردن، لتكون بذلك أول امرأة تتولى هذا الموقع القيادي في واحدة من أهم مؤسسات إدارة الموارد المائية في البلاد. لم تصل إلى هذا المنصب صدفة، بل بعد مسيرة مهنية طويلة، راكمت خلالها خبرة ومعرفة أهلتها لإدارة ملف المياه بكل تعقيداته، في بلد يُعد من أفقر دول العالم مائيًا.
من بين المبادرات اللافتة في فترة إدارتها، كان إطلاقها لخطة تطوير شبكات الري في وادي الأردن، بما يقلل من الفاقد المائي، ويحسن كفاءة الاستخدام الزراعي. وهو ما لاقى ترحيبًا من المزارعين وأهل المنطقة، وعكس قدرة حقيقية على اتخاذ القرار الجريء والمسؤول في وقت حساس.
لكن – وكما هي الحال أحيانًا في هذا الوطن الذي ما زلنا نحلم بأن يُترجم شعاراته إلى أفعال – تم إقصاؤها من منصبها. لا لقصور أو تقصير، بل ربما لأن نجاح المرأة الواضح، وجرأتها في اتخاذ القرار، ما زالا يثيران القلق في عقول اعتادت على مشهد آخر.
وهنا يظهر التناقض الصارخ: فنحن نتحدث باستمرار عن تمكين المرأة، وندعو إلى تعزيز مشاركتها في مراكز صنع القرار، ونحتفل كل عام بإنجازاتها، لكننا نقف – بصمت أو تجاهل – أمام محاولات تقويض من أثبتت أن الكفاءة لا تفرّق بين رجل وامرأة.
وفي هذا السياق، لا يمكننا أن نغفل ما قاله جلالة الملك عبدالله الثاني:
“لا يمكن لأي دولة أن تحقق التقدم إذا تم تهميش نصف طاقاتها البشرية، أي المرأة.”
وهو قول يلخّص التحدي، ويضعنا أمام مسؤولية جماعية لتجسيد هذا المبدأ على أرض الواقع.
قصة منار ليست استثناء، بل جزء من واقع تعيشه كثير من النساء الأردنيات اللواتي أثبتن الجدارة، وواجهن في المقابل تحديات مزدوجة؛ مهنية واجتماعية. ورغم كل ذلك، فإن أمثال منار لا ينكسرن، ولا يتراجعن. لأنهن يؤمنّ – كما نؤمن نحن – أن خدمة الوطن لا تحتاج إلى لقب وظيفي، بل إلى إخلاص، وعقل راجح، ويد تعمل بصمت.
لم أصادفها في عملي بشكل مباشر، لكن بحكم تخصصي المرتبط بقطاع المياه، وبحكم معرفتي بعدد من موظفي سلطة وادي الأردن ممن كانوا من طلبتي في الجامعة، كنت أسمع كثيرًا عن تميزها في عملها، وجديتها، وأدائها العالي، والتزامها اللافت.
هي لم تكن يومًا مقيمة في الطفيلة، بل الطفيلة هي التي تقيم فيها، كما هو حال كثير من أبناء المحافظة الذين اضطرتهم ظروف العمل أو ارتباطاتهم العائلية – وأغلبهم من منتسبي القوات المسلحة – للإقامة خارجها.
ستبقى منار المحاسنة صوتًا نسائيًا حرًا من محافظتنا، نفاخر بها، ونقف إلى جانبها، كما تقف هي دومًا إلى جانب أبناء هذا الوطن، مهما اشتدت الرياح واحتدت الظروف.
فاللقب لا يصنع القائد، بل القيم التي يحملها. ومنار ستبقى منارًا لكل امرأة أردنية تؤمن أن الكفاءة لا تعرف جنسًا، ولكل مؤسسة ما زالت تؤمن بأن الوطن لا يُبنى إلا بجناحيه: المرأة والرجل معًا.