
حين يولد الإصلاح في مكاتب النخبة… ويموت قبل أن يبلغ الشارع
الشاهين الاخباري
د. نعيم الملكاوي / كاتب وباحث سياسي
منذ أن أُعلنت انطلاقة اللجنة الملكية للتحديث والإصلاح السياسي، برئاسة دولة سمير الرفاعي، بدا المشهد وكأن الأردن على أعتاب فجر جديد، حيث القوانين الرصينة تتلألأ في دفاتر القرار، ونصف الكأس المملوء يعد بالخير. لكن الواقع على الأرض يهمس بصوت آخر: إنتاج يصنعه النخبة في القاعات المكيفة، يُقرأ في الصحف ويتصدر الشاشات ، ويتلاشى قبل أن يصل إلى الأزقة والأسواق.
الأثر الشعبي: فجوة بين النص والنبض
العمل الحزبي في الأردن، منذ بداياته، كان شبه أسير للأفكار المستوردة: أحزاب قومية، أيديولوجية، وعقائدية جاءت من عواصم أخرى، لتغرس جذوراً في تربة لم تعرف طعمها ولم تحتضنها. وفي أوقات الحظر، ترسخت لدى المواطن فكرة أن الانخراط الحزبي جريمة خفية، وأن السياسة ليست إلا منصة للرقابة والتقييد، لا مساحة للتغيير والإبداع ، فغرست في ذهنية المواطن ان العمل الحزبي محرم وصاحبه منبوذ .
حقبة التسعينات أعادت تقديم المشهد بروح وشكل جديد : وجوه خرجت من ردهات المناصب الحكومية، بلا تجربة تنظيمية فعلية، لتنتج أحزاباً أشبه بمزارع خاصة لأصحاب الدولة ، المعالي ، العطوفة والسعادة، تدار بعقلية موظف الدولة، لا بعقلية القائد الشعبي . واليوم، نرى هذه المسرحية تتكرر، بأدوات جديدة، لكنها تحمل نفس الجذر: غياب المشاركة الشعبية وسيادة الولاءات الضيقة .
نتائج التجربة الحزبية في الانتخابات الأخيرة البرلمانية 2024:
حصل أعضاء الأحزاب على 75% من مقاعد المجلس (105 من أصل 138)، وتصدّر جبهة العمل الإسلامي المشهد بـ31 مقعداً ، بينما بلغ معدل الإقبال 32.25% فقط من إجمالي الناخبين المسجلين، واحتلت النساء نسبة 19.6% من المقاعد (27 مقعداً).
البلدية واللامركزية: لم تتجاوز نسبة الإقبال 29.8% ، وكان حضور الأحزاب ضعيفاً جداً؛ شارك 74 مرشحًا فقط من أصل 4,646 وفاز 19 منهم بالمقاعد البلدية و24 بمقاعد مجالس المدينة عبر 17 بلدية ، ما يؤكد سيطرة الولاءات القبلية والعائلية على المزاج الانتخابي .
الأرقام تكشف هشاشة التجربة: القوانين موجودة، وحصص الشباب والنساء متزايدة، لكن العزوف الشعبي واضح، والشارع يتساءل: هل هذا التحديث لنا أم علينا ؟
الواقع الحزبي الجديد: بين الطموح والتحفظ
القوانين المعدلة، وتوسيع قاعدة المشاركة الحزبية، ووضع أهداف بعيدة المدى لتمثيل الشباب والنساء، تبدو خطوات متقدمة على الورق، لكنها لا تعكس الحياة الواقعية: عدد المنتسبين لأحزابهم لا يتجاوز بضعة آلاف في بلد يقترب عدد ناخبيه من 5 ملايين، والنسبة الأكبر من المواطنين خارج اللعبة السياسية، إما لعدم القناعة أو لغياب الأدوات الجاذبة.
الشارع الأردني ما زال أسير ذاكرة أمنية طويلة: “إياك والعمل التنظيمي… فالباب الذي تدخله قد لا تستطيع الخروج منه”. هذه القناعة تحرم التجربة السياسية من دماء جديدة وأفكار متقدة، وتجعل التجربة الحزبية أشبه بزرع بستان في صحراء جرداء : حتى لو كانت البذور محسنة، والأسمدة متقنة، والري منتظم، فإن عمق التربة الاجتماعية لم يُعد بعد لاستقبال ديمقراطية الحياة.
كيف نرتقي بالإصلاح ؟
لكي يتحول التحديث من نصوص إلى واقع حي، يجب أن يشعر المواطن بأن للحزب معنى، وأن له دوراً . فالبرامج الحزبية التي تحاكي الواقع ، الدعم المالي والتقني للأحزاب الجادة، فتح الأبواب أمام الشباب والنساء، ومحاسبة من يحوّل الحزب إلى منصة مصالح شخصية، كلها خطوات ضرورية. الإصلاح مرتبط مباشرة بالمعيشة اليومية: في تحسين فرص العمل، دعم المشاريع الصغيرة، ورفع جودة الخدمات ولهذا كان من الاجدر بمكان ان تكون الخطوات الأولى اصلاحاً اقتصادياً ، اجتماعياً وفكرياً لتكون التربة صالحة لشتى أنواع الاستخدام .
الإعلام والنخب السياسية مطالبون بالتحول من منصات للتصفيق إلى جسور بين الدولة والمجتمع، تحكي قصص نجاح حقيقية وتفتح المجال أمام النقد البنّاء والمبادرات الشعبية. أما قياس التقدم، فيتطلب مؤشرات ملموسة: زيادة المنخرطين بالأحزاب بنسبة لا تقل عن 10–15% خلال خمس سنوات، ولا بد من العمل الصادق على رفع منحنى الثقة الشعبية بأركان الدولة ، وتحويل القوانين من نصوص صامتة إلى أدوات يومية لتوسيع المشاركة.
الإصلاح بين إرادة النخبة ونبض القواعد :
الإصلاح الذي لا يلامس الأزقة والأسواق والبيوت، إصلاح محكوم عليه بالشيخوخة قبل الولادة. نجاحه لا يُقاس بعدد القوانين وزركشتها ، بل بعدد المواطنين الذين يشعرون بأن لهم صوتاً حقيقياً مسموع ، وأن لأفعالهم أثراً ملموساً .
حتى يتحقق ذلك، يبقى التحديث مشروعاً مكتوباً لا يُعاش، ووسط أدوات جديدة وأسماء مختلفة، يظل الشارع الأردني، بوعيه ومواقفه، هو الحكم الفصل في تحديد ما إذا كانت هذه اللحظة بداية فعلية، أم حكاية أخرى تُروى لاحقاً للصحف والمذكرات التاريخية .وحينها فقط ، يمكننا القول إننا لم نكتب فصلاً جديداً في كتاب قديم هندسه المهندسون ، بل بدأنا كتاباً آخر… كتاباً يكتبه الشارع، لا النخبة وحدها.