
“أنس الشريف”حين يصبح الخبر الأخير شهادة
فداء الحمزاوي
منذ اندلاع طوفان الأقصى، كنت أقاوم بالكلمة، كتبت عشرات التقارير والمقالات مؤازرة للمقاومة، مدافعة عن الحق الفلسطيني، كاشفة زيف الرواية الإسرائيلية وعريها، وجّهت سهامي دوما نحو الكيان المحتل، أفضح جرائمه، وأندد بحربه اللامتكافئة على المدنيين العزل، على الأرض والإنسان والشجر والحجر.
كتبت عن “العهر الإسرائيلي” وهو يحاول تسجيل هدف في مرمى المقاومة لكسب التعاطف العالمي، تناولت خطاب نتنياهو الديني وهو يكسو به الإبادة الجماعية بغطاء مزيف من القداسة، حللت كيف ضحى بكيانه من أجل مستقبله السياسي، وكتبت عن خطابات أبو عبيدة التي شكّلت بلسما لجراح المحبطين والمترددين، حتى حين جاءت أول هدنة، وصفتها بإنجاز للمقاومة، إذ لم تكن مجرد وقف للنار بل اعتراف بانكسار صهيوني أمام شروطها.
كنت أبحث دائما عن الحقيقة في تفاصيل الوجع الفلسطيني، حتى سارعت إلى محاورة الأسيرة المحررة تحرير أبو سرية فور خروجها إلى الحرية، وكتبت عن الشهيد الصحفي حمزة الدحدوح، ابن “أبو الصحفيين” وائل الدحدوح، حين ودعه أبوه بكلمة واحدة تختصر كل المأساة، “معلش”.
حتى في دعواتي للمقاطعة، قلت إنها “أضعف الإيمان”، كنت أظن أنني أمتلك الكلمة كسلاح، أقاوم بها وأصرخ من بعيد، لكني اكتشفت أن هناك ما هو أوجع من الكتابة، ما هو أعمق من كل مقال، أن تفقد صديقا في الحرب.
الخبر الذي أوقف قلمي كان استشهاد الصحفي أنس الشريف، هذه المرة لم يكن مجرد اسم على شاشة أو صورة بين أنقاض، كان صديقا، كان صوتا أعرفه ووجها بريئاً حمل معاناة شعب كامل على عاتقه، ربما لذلك بدا الوجع مختلفا، ثقيلا، صامتا، يعجز عن الانسكاب على الورق.
تساءلت، إذا كان ألمي أنا على فقد صديق واحد قد شلّني عن الكتابة، فكيف بأهل غزة الذين فقدوا عائلات بأكملها، جيرانهم وأحباءهم وأصدقاءهم، على مدار عامين من حرب لم تبقِ ولم تذر؟ هل ما زال يملك الناجي منهم “حالاً” لنسأله “كيف حالك”؟
في لحظة العجز تلك، وجدت نفسي أهاتف صديقي الفنان الغزاوي “محمود زعيتر”، أبحث عن عزاء في صوته، عن خيط واهٍ يربطني بغزة. بكيت وأنا أحدثه، فإذا برده يصفعني، “متعيطيش، أنا مش قادر أحس باشي، حاسس كل شي فينا مات، فداء، لا تتعلقي فينا ولا تحبينا، إحنا أهل غزة هذا طريقنا، وكل مرة رح يوجعك قلبك على صديق فينا، وعفكرة القصة ما وقفت على أنس، لسه الجاي على غزة أعظم، ادعيلنا يختي”.
أحرقني كلامه، تخيلت وجوها غزية كاملة تتكلم بلسانه، شعب كامل تبلد من كثرة الموت، لكنه في كل مرة يبكي شهيده كما لو أنه الأول، كأنهم يودعون جزءا من أرواحهم مع كل جنازة جديدة.
نحن من بعيد نتألم من صور وفيديوهات تصلنا عبر الشاشات، لكن كيف هو الألم هناك؟ كيف يكون الوجع حين ترى الدم بعينيك وتشم رائحته في المكان ذاته الذي تعيش فيه؟ حين تدرك أن الدور قد يصل إليك أو إلى من تحب في أي لحظة؟
أنس الشريف ظل طوال الحرب ينقل الخبر من قلب غزة، بصوت ثابت وعين لا ترمش، لم يتوقف عن أداء رسالته حتى لحظة سقوطه، لكن الخبر الذي نقله هذه المرة لم يكن للناس، بل كان لله، أن آخر ما يملك الصحفي أن يقدمه لوطنه هو حياته، رحل أنس، ولم ترحل الحكاية، بل كتب بدمه خبرا أخيرا سيبقى خالدا أن الكلمة قد تقتل، لكن الحقيقة لا تموت.