
“المنعطف الأخير”مسرحية تحفر في جدلية الموت والمال الحرام
المنسق الإعلامي لمهرجان طقوس فداء الحمزاوي – تصوير نجلاء الصباح
على خشبة مهرجان عشيات طقوس المسرحي الدولي بدورته الثامنة عشرة، قدم المخرج حمزة الشوابكة تجربة مسرحية ذات طابع وجودي عبثي بعنوان “المنعطف الأخير”، عمل يقارب فكرة الموت من زاوية اجتماعية واقتصادية، عبر تفكيك العلاقة بين الغنى الفاسد والفقر المقنّع بالقوة.
المسرحية تبدأ بفضاء مظلم، حيث يدخل شاب (اداه سعد البطاينة) مرتديا السواد، ملثما بوجه السارق، يحمل مصباحا صغيرا كأنما يفتش في زوايا الذات المظلمة، لا في أركان البيت فحسب، هذا البحث يقوده إلى مفارقة رمزية حين يفرح بحبة موز على طاولة مهملة، في إشارة أولية إلى هشاشة الفقير الذي تتكثف لذته في أبسط الأشياء، هنا اشتغلت سينوغرافيا حسن محمد حسن بذكاء على تحويل المكان من فضاء عادي إلى مختبر رمزي، حيث الطاولة ليست مجرد طاولة، بل مرآة لصراع طبقي كامل.
المفصل الدرامي ينقلب عند دخول صاحب المنزل (جسده حسن محمد حسن أيضا)، مرتديا بدلة رسمية، متخفيا وراء سلطة المال والهيبة، مكالمة هاتفية مع فتاة تكشف أن زوجته “سارة” ترقد في المستشفى وأنه قد اصابه حادث قبل دخوله المنزل، ليضعنا النص أمام انكسار داخلي لشخصية تبدو للوهلة الأولى قوية، لكنها هشة أمام فقدان الحياة.
عند هذه النقطة، يتحول السارق إلى “عزرائيل”، لا كملك موت حقيقي، بل كقناع يفضح هشاشة صاحب المنزل. الحوار الطويل بين الاثنين، الذي صاغه المخرج الشوابكة بتوازن بين العبث والواقعية، لم يكن مجرد جدال حول الموت، بل كان محاكمة فلسفية لمفهوم “العدالة الكونية”، من يملك الحق في الحياة؟ ومن يقرر ساعة النهاية؟
الإضاءة التي نفذها عامر جراح لعبت دورا مركزيا في هذا البناء، حيث تحولت الغرفة المظلمة إلى ساحة عبور بين عالمين، لحظات الضوء الأحمر الكثيف عند اقتراب فكرة الموت من التحقيق، أعطت للمشهد بعدا أسطوريا يذكر بتجليات الطقوس القديمة، بينما تركت العتمة مساحات للمتلقي كي يتخيل “اللا مرئي”.
في المقابل، صممت أزياء سيرين النجداوي لتعكس مفارقة أخرى، بدلة رسمية لرجل الأعمال الغارق في المال الحرام، مقابل ملابس سوداء لفقير لم يجد إلا التنكر في صورة الموت ليمتلك سلطة لحظة، الأزياء هنا لم تكن زينة خارجية، بل امتدادا فلسفيًا للشخصيات.
يبلغ العرض ذروته حين يكتشف صاحب المنزل أن “عزرائيل المزعوم” يشعل سيجارة وينستون، لتتفجر السخرية السوداء، كيف يمكن لملك الموت أن يشارك في “فساد التبغ العالمي” ويتورط في موت شعوب العالم الثالث لا من خلال قبض الأرواح، بل من خلال صناعة التدخين؟ هذه المفارقة العبثية تسقط القناع عن “الزيف”، ليكشف المتلقي أن ما يحكم الحياة والموت أحيانا ليس القدر، بل مصالح اقتصادية وحسابات سياسية.
ومع ذلك، لا يتركنا العرض في فراغ ساخر فقط، بل يختتم بظهور “ملك الموت الحقيقي” خلف الستار، هنا تتجسد رؤية الشوابكة، لا مفر من النهاية، والموت لا يفاوض ولا يساوم، السارق يخرج، صاحب المنزل ينهار، والصوت الأخير يقول للجميع إن الموت ليس مزحة، بل حقيقة تتجاوز كل جدل فلسفي أو كوميدي.
من الناحية البنيوية، اعتمدت المسرحية على “ديودراما” (شخصيتان أساسيتان)، ما أتاح فسحة لتجليات الممثلين سعد البطاينة وحسن محمد حسن في بناء حالة من الصراع النفسي والوجودي العميق، بين خوف الأول من الفقر وخوف الثاني من الفناء، أما جود المبيضين كمساعد مخرج، فبدا أثره واضحًا في ضبط إيقاع الحوار الطويل، ومنع انزلاقه نحو الرتابة.
“المنعطف الأخير” ليست مجرد قصة عن سارق ورجل ثري، إنها مرثية رمزية عن فساد الثروة، عبثية الموت، وضرورة مواجهة الحقيقة، أن النهاية قادمة، وأنه لا سلطة فوق الموت.


