
“أنا والعذاب وهواك” مسرح الانتظار ومرثية جيل مكسور
المنسق الإعلامي لمهرجان طقوس فداء الحمزاوي
في مهرجان عشيات طقوس بدورته الثامنة عشرة، قدم المخرج راكان الشوابكة عملا مسرحيا مكثفا بعنوان “أنا والعذاب وهواك”، نصب فيه خشبة المسرح على هيئة محطة انتظار رمزية، لا قطار فيها سوى قطار العمر، ولا مسافرين إلا جيل كامل جرد من حقه في الحلم، العرض بدا أقرب إلى تشريح درامي لحالة جيل يعيش على الهامش بين وعودٍ سياسية واجتماعية كاذبة، وواقع ينهش شبابه من الداخل.
منذ لحظة الافتتاح، جسد عبدالله الشوابكة شخصية الشاب الجالس على الرصيف، أنيق في مظهره الخارجي، مهترئ في داخله، ينتظر قطارا لم يرسل إليه أصلا، صورة شبه فوتوغرافية عن آلاف الشباب الذين يلبسون الطموح كقناع ويكتمون الخيبات تحت أقمشة أمل مستعار، في الجهة الأخرى، ظهرت سيلينا أنتوان فتاة متوهجة بالحياة، على بساطة هيئتها، تحمل في حضورها طاقة التفاؤل، كأنها نداء استيقاظ يحاول أن يجره خارج عبث الانتظار، لتذكره بأن الصحة والشباب رأس المال الحقيقي، لا المال ولا المناصب.
لكن المسرح هنا لا يقف عند ثنائية “اليائس/المتفائل”، بل يتعمّق عبر لعبة “الخيوط” التي استثمرها المخرج راكان الشوابكة بحس بصري دال،مع خيط الشال، تتحول أنتوان إلى الأم الغاضبة التي توبّخ ابنها بلا رحمة، كأنها ذاكرة الطفولة التي لا ترحم عجزه، مع خيط الكتب، تظهر كـ معلمة متسلطة، تسجنه في خطاب أخلاقي مملوء بالتوبيخ وتنفيه إلى “غرفة الإدارة”، إشارة إلى فشلٍ مؤسسي متجذر، مع خيط الخطبة، تجسد دور والدة العروس التي تهينه وترفضه لفقره، لتعيده إلى حقيقة أن الحب ذاته مشروط بالسقف الطبقي، ومع خيط البنك، تصبح مديرة قاسية، تهزأ منه وتوبخه كموظف صغير، كاشفة أن حتى العمل لا يقدّم كرامة بل يضاعف الذل أمام ثراء الآخرين.
كل خيط هنا يعمل كـ آلة كشف، يسحب من ذاكرة الشاب طبقة جديدة من الإهانة، فيتآكل انتظاره أكثر فأكثر.
المفارقة الكبرى حين ينقلب السحر على الساحر، سيلينا أنتوان نفسها، التي بدأت كصوت التفاؤل، تتحول بفعل ضغط الكلمات المثقلة بالتشاؤم إلى انعكاس آخر للانكسار، لكنها لا تسقط صامتة، بل تدافع عن الوطن وأرضه وأحلامه في مواجهة قرار الشاب (عبدالله الشوابكة) بالتخلي عن الوطن، هنا يصل العرض إلى ذروته الفلسفية، لحظة انهيار علاقة الفرد بالوطن، حين ينهك الجيل من خذلان متراكم فيفقد حتى إيمانه بالانتماء.
الإخراج اعتمد على سينوغرافيا مجردة تقريبا، جعلت من الإضاءة (التي صممها حسن المراشدة) وموسيقى راشد دعيبس أدوات نفسية أكثر منها زخرفية، الضوء يعكس تقلّبات الداخل، والموسيقى تضع طبقة وجدانية تفضح هشاشة الشخصيات.
فلسفيا، يمكن قراءة “أنا والعذاب وهواك” بوصفه نصا عن جغرافيا الانتظار، انتظار عمل، انتظار حب، انتظار اعتراف، انتظار وطن أفضل، غير أن الانتظار هنا ليس أفقًا، بل قيدا، العرض يبرهن أن الجيل الحالي يعيش في محطة عبثية، كل قطار يمر يحمل خيبة جديدة، وكل خيط ينسحب من ذاكرته يضيق عليه أفق الحياة.
بهذا المعنى، قدم راكان الشوابكة وممثليه عبدالله الشوابكة وسيلينا أنتوان عملا مكثفا، بسيط الأدوات، لكنه صادم في وضوحه، جيل كامل على خشبة واحدة، في لحظة واحدة، يعري نفسه كمرثية للحلم المسلوب.


