أخبار الاردن

“الآنسة جوليا” مختبر قاس للسلطة والرغبة وتبدل المواقع

الشاهين الاخباري

المنسق الإعلامي لمهرجان عشيات طقوس فداء الحمزاوي في إطار فعاليات مهرجان عشيات طقوس في دورته الثامنة عشرة، قدمت المخرجة والسينوغراف فرح النوافلة رؤيتها لنص أوغست ستريندبرغ “الآنسة جوليا”، لتجعل من الخشبة مختبرا بصريا وفلسفيا يفكك علاقات القوة والهوية والرغبة، منذ اللحظة الأولى دخان يعلو، كرسي وحيد، وإضاءة زرقاء خجولة دخلنا في فضاء لا يستعرض الحكاية بقدر ما يشرحها، حيث يتحول الكرسي إلى عرش مؤقت ينقلب مرارا كما تنقلب المواقع بين السيادة والخضوع.افتتحت سيلينا أنتوان جسد العرض كريستن الخادمة برقصة سوداء قصيرة، تتلاعب بالمروحة والقبعة كمن يجرّب أقنعة الهوية،وعندما يقلب الكرسي ويعلق عليه الإكسسوار، بدا الأمر إعلانا مبكرا عن قابلية السلطة للانقلاب، دخول قيس الشمايلة بدور جان، وهو يرقص بالكرسي، فضح مفارقة الخادم الذي يحرك عرش سيدته، يتوقف الرقص لتبدأ أنتوان (كريستن) بالبوح، فنكتشف أن الصوت الأول ليس للآنسة جوليا، بل للخادمة المرهقة، ما يكشف مبكرا الطبخ اليومي للسلطة في مطبخ الطبقة الأدنى.حين ظهرت آية خليفات بدور الآنسة جوليا بثياب أميرات وخلفها أربعة شبان بينهم جان، توهجت صورة السيدة المتملكة، لكنها سرعان ما بدت هشة وهي تبحث عن الكرسي. صعودها الثمل على المقعد وإمساك كريستن يدها خوفا، مثل تقاطعا بين شفقة الطبقة السفلى وتهالك الطبقة العليا.تدخل الضوء الأحمر حملنا إلى مواجهة أكثر عنفا، جوليا تسأل جان عن الحب، فيرتد إلى ذاكرة طفولته حيث كان يحبها مستحيلا، ويصارحها بازدراء الناس لها، عارضا عليها الهرب. دخول كريستن المعترضة لم يمنع جوليا من إقصائها لتنفرد بجان، هنا رسم الشمايلة شخصية جان كجرح طبقي يتحول إلى سلطة، بعد أن “منحته” جوليا جسدها، انقلبت المعادلة، من كونها الكونتيسة المتسلطة إلى امرأة تتوسل ألا تفضح، الجملة القاطعة “خادم وأب لطفلك القادم” شكلت سوطا طبقيا قلب العلاقة تماما، وحول جوليا إلى دمية بخيوط يحركها جان.رمزية العصفور الصغير الذي جلبته جوليا ثم قتل على يد جان كانت لحظة كسر نهائي، اغتيال البراءة وقطع لسان الرغبة الأنثوية، انهيار جوليا وصراخها بأنها تتمنى رؤية جان مقطوع الرأس أعاد المسرح إلى منطقة الغرائز العارية.في قلب هذه الفوضى، ظهرت جوليا حجوج بدور الطفلة(ذاكرة جوليا)، محاولة إبقاء صورتها قوية من الداخل، وكأنها صوت الماضي الذي يكشف تراكم الهشاشة، الختام كان بلوحة سريالية، باسل الديات يعزف الكمان بوجه مهرج حزين، ترافقه أجساد عمر عنزي، ينال حراسيس ويزن كسبة، كتمثيل جسدي لتناقضات جان الداخلية بين (العاشق الخادم، الفقير/المتسلط، والضعف/القوة).اعتمدت فرح النوافلة على سينوغرافيا فقيرة مركزة، جعلت الكرسي والقبعة والمروحة والعصفور أجسامًا فاعلة بذاتها، فيما جاءت موسيقى آية الخطيب طبقة دلالية تضبط الانتقالات الشعورية أكثر مما تزينها، الأداءات الثلاثة المركزية (خليفات، الشمايلة، أنتوان) شكلت مثلثا متوترا، جوليا بين الغواية والانكسار، جان بين الحلم الطبقي والعنف النفسي، وكريستن كصوت العقل والأخلاق المهمش.فلسفيا، يبين العرض أن الطبقة والجندر ليسا خطّين منفصلين بل شبكة واحدة تسحق الأفراد تحتها، جوليا تسقط لأنها اصطدمت بجدار ترتيب اجتماعي لا يسمح لرغبتها أن تتكلم بلا ثمن، وجان يتوحش لأنه يترجم جرح طبقته إلى سلطة على الأضعف، وهكذا يثبت نص ستريندبرغ أنه ما زال حيا في السياق الأردني، منطق الامتلاك يعيد إنتاج نفسه، بأزياء مختلفة ولكن بنفس الآلية.إن إدراج “الآنسة جوليا” ضمن مهرجان عشيات طقوس أضاف إلى العرض بعدا احتفاليا، لكنه في جوهره كان تشريحا جماليا وفكريا لعلاقة السيد بالعبد، الأنثى بالذكر، والجسد بالسلطة، مسرحية تحفر عميقا في سؤال: من يملك من؟

زر الذهاب إلى الأعلى