
“دعوة” مسرحية تعري السلطة وتعيد تعريف الرعاية
الشاهين الاخباري
المنسق الإعلامي لمهرجان عشيات طقوس فداء الحمزاوي – تصوير علاء القداح
جاء العرض الأردني “دعوة” ضمن فعاليات مهرجان عشيات طقوس في دورته الثامنة عشرة، بعمل مسرحي حمل توقيع المخرجة والممثلة سارة أبو زهرة التي تولت السينوغرافيا والإخراج وأدت على الخشبة شخصية «أفكار» المرأة الأنيقة المتسلطة، فيما شاركها البطولة تامر عساف بدور «ربحي» صاحب الجاكيت البنفسجي، وسارة سعيد بدور «مديحة» المشردة الجائعة، وحمزة فهمي بدور صديقها المتمرد، إلى جانب كريم عمر ومحمد العمري ونور تادرس، وبمساعدة إخراجية من كريم كرم ورسول الفيومي، ودراماتورجيا لـ مؤمن الجعفري وأحمد إسماعيل، فيما قاد إدارة الخشبة كريم حمدان ونفذ الموسيقى عمران علي، مع شكر خاص لـ فرح نصار وعامر عبدالله.يفتتح العرض بمشهد غرائبي لفتاة بملابس رثة وجوارب غير متطابقة تربط بالونا إلى عنقها، تتهادى في فضاء المسرح الخارجي وكأن هشاشتها تستعير جناحا يحلق، بينما يطل ربحي ببدلته وقبعته وجاكيت بنفسجي يشي بالسطوة والترف، ثلاثة شبان يقتحمون القاعة حاملين صواني العصائر يوزعونها على الجمهور، فيكسرون الجدار الرابع ويحولون فعل التبرع إلى استعراض، وشبان آخرون يوزعون بطاقات تدعو للتبرع، الفتاة الجائعة، التي تجسدها سارة ابو زهرة، تلتهم طبق الأرز بشراهة تكشف عمق الحرمان، بينما يراقبها ربحي بعيون متعطشة، لا لرغبة جسدية بل لافتتان مرضي بجوع الآخر كوسيلة لإخضاعه، وفي ذروة مشهدية تدخل في نوبة مخاض هستيري وتضع طفلها على الارض، قبل أن يلوح ربحي بجاكيت أحمر وحذاء نسائي يشتتان انتباهها لحظة تكفيه لخطف الرضيع، وبعد لحظات تظهر سارة أبو زهرة متجسدة في شخصية أفكار الأنيقة، مرتدية الجاكيت الأحمر ذاته، ممسكة بالمايكروفون لتعلن بدء حفل تبرعات للأيتام، في مفارقة كاشفة، المؤسسة التي تعد بالرعاية هي ذاتها التي تخطف.حين يواجهها المشردان مديحة وصديقها بأنهما أيتام، يأت الرد الصادم، “هذه دار أيتام أولاد الذوات، لا ملجأ”، لتتكثف في العبارة فلسفة العرض، العطف هنا ليس حقا بل أداة انتقاء، والرحمة سلعة لها جمهورها المستهدف، أبو زهرة تترجم هذه الفكرة بصريا عبر هندسة الخشبة، حيث انتقل العرض من الخارج إلى الداخل، في الأعلى يجلس ربحي وأفكار على كرسيين متقابلين يتناولان الطعام بالشوكة والسكين، رمزا للترف المصقول بقواعد الأتيكيت، أسفل منهما يجلس “عصفور” الذي جسده أحد الممثلين كأنه قائد أوركسترا ومخبر في آن، يبيع صمته مقابل وجبة أفضل، وفي قاع المشهد يزحف جسدان منهكان نحو فتات الطعام، ليكتمل المشهد الهرمي الذي يختزل علاقة الغذاء بالسلطة.إعجاب المشردين بالسقف عند اقتحامهم المكان يكشف رمزا عميقا، فالحياة كلها بالنسبة لهم عيشت دون سقف، والملاذ المعماري ذاته يصبح حلما طبقيا قبل أن يكون حماية، ومن هنا يتطور الصراع إلى تفكيك ما يمكن تسميته “اقتصاد الرحمة”، حيث يحول العطف إلى عملة، والعمل الخيري إلى وسيلة شرعنة للهيمنة، ربحي في أداء تامر عساف يجسد شهوانية الامتلاك، فيما تجسد سارة أبو زهرة بلاغة الرعاية التي تنقلب تسلطا عند أول تمرد، ويمنح حمزة فهمي صوته لحظة مفصلية حين يصرخ احتجاجا على سوء الطعام، فيفتح ثغرة في جدار المؤسسة، بينما تنطق سارة سعيد بجملة مؤثرة “شو أعملك؟ جوعانة” لتكشف الفلسفة الأعمق، المعرفة امتياز يتغذى من المائدة، والجوع هو الثمن الذي يدفع مقابل الوصول إلى الحقيقة.الألوان بدورها تتحول إلى لغة ثانية، البنفسجي رمز سلطة متعالية، والأحمر كاريزما الإغواء الخيري، والبالون المربوط إلى عنق الفتاة هشاشة معلقة بين صعود وسقوط، أما الحذاء النسائي فليس مجرد إكسسوار بل وعد بالترقي الطبقي يستدرج الجسد إلى مقايضة عابرة. وعندما تنتزع الجاكيتات في الختام وتلبس لمديحة وصديقها، لا يقدم العرض خلاصا رومانسيا بقدر ما يطرح سؤالا فلسفيا مقلقا، هل يكفي استرداد الرموز لتغيير البنية، أم أننا أمام إعادة إنتاجها بوجوه أخرى؟من الناحية الأدائية، ينهار ربحي الذي جسده تامر عساف حين يواجه الأيتام بوجوه لم يرها من قبل، في انتقال صادق من التوحش إلى الارتباك، بينما تسيطر سارة أبو زهرة على إيقاع المشهد بقدرتها على التحول من نبرة محسوبة إلى ارتباك هستيري، وتمنح سارة سعيد شخصية مديحة واقعية خامة ترى في طريقة تناول اللقمة أكثر مما تسمع في الجملة، فيما يجسد حمزة فهمي تمرد الجائع الذي يهدد صرح المؤسسة، ويكمل كريم عمر ومحمد العمري ونور تادرس صورة الجسد السفلي بزحف صامت يتكلم أكثر من أي خطاب، الموسيقى التي نفذها عمران علي لا تزين المشاهد بل تضبط المسافة بين الطبقات، وإدارة كريم حمدان للخشبة حافظت على دقة انتقالات الصورة، بمساندة كريم كرم ورسول الفيومي في ضبط حركة المجموعات.في النهاية، يقدم “دعوة” مسرحا لا يكتفي بإدانة الاستغلال المبطن بالعمل الخيري، بل يعيد مساءلة مفهوم الرعاية ذاته، محولاً التبرع من فعلٍ يلمّع صورة المؤسسة إلى سؤال فلسفي حول العدالة وكرامة الجائع، العرض لا ينتهي بحملة تبرعات جديدة فقط، بل بدعوة أعمق، إعادة تعريف الرحمة كي لا تتحول إلى سلعة، وإعادة النظر في الطبقية التي تختبئ خلف الأناقة والبدلات الرسمية.
تصوير علاء القداح




