أخبار الاردن

“متر في متر” مونودراما عُمانية تفضح وراثة الخوف وتجويع الإنسان تحت سطوة السلطة

المنسق الإعلامي لمهرجان عشيات طقوس فداء الحمزاوي – تصوير علاء القداح

قدم العرض العُماني «متر في متر»، الذي أخرجه ومثله سامي البوسعيدي عن نص للكاتب أسامة السليمي، تجربة مونودرامية كثيفة ومتصاعدة الإيقاع ضمن فعاليات مهرجان عشيات طقوس في دورته الثامنة عشرة، على خشبة شبه عارية، تكون المشهد من حبل يتدلى من السقف أشبه بالمشنقة وكرسي وحيد يتوسط الفضاء، فيما جسد الممثل العاري من الأعلى، وقد قيد قدمه بخلخال، حمل وحده عبء الفضاء المسرحي وحوله إلى زنزانة خانقة بحجم متر في متر، عمل كل من محمد الشرقاوي ويوسف الحر على المكياج والديكور ليكملا الصورة البصرية بما يتلاءم مع عوالم النص القائمة على العزلة والقهر والخذلان.منذ اللحظة الأولى، فرض البوسعيدي على الجمهور الدخول في صراع داخلي متوتر يعيشه السجين، ارتجافات الجسد، حركاته البطيئة، وجلوسه المتكرر على الكرسي، كلها عكست صراعا بين الرغبة في الحياة وإغراء الموت، ومع دقات الجرس التي كانت تقطع صمته، تبرز الجملة المتكررة، «إنه اليوم الأخير»، لتتحول إلى لحن وجودي يضع المشاهد أمام سؤال النهاية المحتومة، حلق الممثل أجزاء من شعره بما يشبه طقسا من طقوس اليأس، وكأن كل خصلة تقص هي قطعة من عمره المهدور في السجن.تجلت فلسفة العرض عبر الأصوات المتعددة التي تداهم السجين، صراصير، فأر، ضحكات شريرة للحارس الغائب الذي لا يرد أبدا، هنا يصبح الصمت سلطة مطلقة، واللامبالاة نوعا من التعذيب، البوسعيدي واجه هذا الغياب بلحظة اعتراف صادمة، حين أعلن أنه ينحدر من «سلالة جبانة»، ساردا تاريخا عائليا من العجز، جده كان سائس خيول لم يركبها، ووالده حداد ارتجف أمام السيف، عبر هذا المونولوج، يطرح النص الذي كتبه أسامة السليمي فكرة الخوف كإرث اجتماعي يزرع في الأبناء ليبرر استكانة الشعوب أمام السلطة.محور آخر يضيء عليه العرض هو حضور الزوجة الغائبة، التي رحلت جوعا بعد شهر من زواجها، استحضرها الممثل بالغناء والهلوسة وكأنها ما زالت نائمة إلى جانبه، قبل أن ينفجر في اعتراف قاس، “لقد ماتت ودفنتها بيدي”، هنا تتداخل المأساة الفردية مع المأساة الجماعية، فالموت ليس قدرا بيولوجيا بل نتيجة جوع مفروض، وحين يعود السجين ليسرد سبب اعتقاله، يظهر البعد السياسي للنص، الملك الذي رمى له بقطعة خبز، ثم عاقبه حين تقاسمها مع جواد الملك السمين، ليصدر الحكم بأن يسجن إلى أن يقتل نفسه عبر حبل المشنقة، إنها صورة لسلطة لا تكتفي بالتجويع، بل تحتقر المتسول إلى حد جعله عبرة للآخرين.الأداء الجسدي الذي قدمه سامي البوسعيدي اعتمد على التوتر العضلي والانفعالي، بين محاولات متكررة للفشل في الانتحار وصراخ يائس يطالب بحق الموت الطبيعي، كان يمسك الحبل ثم يسقط عاجزا، ليعود إلى حلاقة رأسه في فعل متكرر يعكس التردد وعدم الحسم، وفي اللحظة الأخيرة، حين يسأل بصوت مرتجف، “هل تقتلون الجائع في مملكتكم؟”، حينها يلف الحبل على رقبته وينجح في قتل نفسه، محررا جسده من سجن ضيق مساحته متر في متر، لكنه في العمق محررا صوته من قمع طويل لم يتح له حتى حق الموت الطبيعي.العرض الذي جمع بين إخراج سامي البوسعيدي وأداءه المنفرد، وبين نص أسامة السليمي الحاد، قدم صورة فلسفية عميقة عن الخوف والجوع والسلطة، المونودراما هنا لم تكن اعترافا ذاتيا فحسب، بل مرآة لجماعة كاملة تزرع في أبنائها الجبن كي تستمر في الخضوع، وتحاصرهم بالجوع حتى يصبح الانتحار خيارهم الوحيد للتحرر، “متر في متر” ليس فقط صرخة من زنزانة، بل دعوة للتفكير في كيف يتحول الجسد إلى ساحة صراع، وكيف يمكن للمسرح أن يكشف عري السلطة حين تحاصر إنسانا في فضاء ضيق، فلا تمنحه سوى وهم الحياة وحرمان الموت الكريم.

تصوير علاء القداح

زر الذهاب إلى الأعلى