
“القمقم” مسرحية سعودية تضع الحرية خلف القضبان والبراءة في مواجهة الزمن
الشاهين الاخباري
المنسق الإعلامي لمهرجان طقوس فداء الحمزاوي
تصوير علاء القداح
قدم المخرج سلام السنان، عن نص للكاتب عبدالعزيز اليوسف، العرض المسرحي السعودي “القمقم” ضمن فعاليات مهرجان عشيات طقوس في دورته الثامنة عشرة، في تجربة مسرحية تنفتح على التراجيديا والعبث معًا، وتستحضر صورة السجن كرمز للقيود المرئية واللامرئية التي تحاصر الإنسان.
على خشبة تتوزع فوقها القضبان الحديدية، يبدأ العرض بصورة قاسية، سجين عجوز، هو “الحوت”، يقع تحت ضربات سجان لا يرحم، فيما يحرك السجناء القضبان ليعيدوا تشكيلها كسجن متحول يكاد يبتلع جسده، تلك الافتتاحية لم تكن مجرد مشهد جسدي، بل بيان بصري يكشف أن السجن ليس مكانا ثابتا، بل حالة متغيرة تلاحق الجسد والروح.
الحياة اليومية خلف القضبان تظهر في لوحات يتناوب فيها السجناء بين الغناء والثرثرة وسرد القصص، هنا يطل السجين الأبكم، بلغة جسدية وصوتية مبتورة، لتصبح إشاراته أشبه بموسيقى ناقصة تبحث عن اكتمال، كما يبرز سجين لصّ صندوق التبرعات وآخر محتال إلكتروني يستدرج الناس عبر شخصية وهمية باسم “سميرة”، في مشهد ساخر يبلغ ذروته عندما يفضح السجين حيلة سرقة طالت الشرطي نفسه الذي صرخ مرتبكا “سرقوا أموالي!”.
لكن قلب الحكاية يظل “الحوت” أو وائل محمود، الذي سجن ظلما بعد اتهامه بقتل جاره، عشر سنوات من عمره ضاعت وهو يحاول إثبات براءته، ليكتشف يوما أن اسمه نفسه كاد يمحى، فلم يعد يعرف إلا بلقبه، “حوت الأوركا”، المخلوق الذي يبدو بريئا وجميلا لكنه قاتل محترف في العمق، المفارقة هنا تنكشف ببطء، وائل بريء بالفعل، لكن البراءة التي تأتي بعد عقد كامل من الأسر لم تعد خلاصا بل عبئا جديدا.
المخرج سلام السنان جعل من القمقم، كرمز أسطوري، استعارة لفلسفة وجودية، المارد الذي يفضل البقاء في قمقمه لأنه يخشى العالم، هو ذاته السجين الذي يتردد في مغادرة الزنزانة بعد أن صارت مألوفة أكثر من واقع خارجي بلا أهل ولا حلم، هكذا حين ينادي الشرطي اسمه أخيرا “وائل محمود طلعت براءة”، لا يستقبل الحوت الخبر بفرح كامل، بل بحسرة تغلفها خيبة العمر الضائع.
الإضاءة التي صاغها عادل القطان والإشراف العام لمجيد العبيدي لعبوا دورا محوريا في خلق مفارقة بين قسوة الظلام وسطوع الحقيقة المتأخرة، فيما شكل الأداء الجماعي بمشاركة حسين يوسف، ناصر عبدالواحد، قاسم حجر، محمد الحمود، قاسم المرهون، فياض منير، عادل الخاطر لوحة تمثيلية جمعت بين التراجيديا السوداء والفكاهة الساخرة.
الختام جاء صادما، وائل، الذي عرف في السجن بلقب الحوت، يقرر أخيرا أن يجسد لقبه خارج الأسوار، فيقتل ابن جاره القاتل الحقيقي خنقا، بعد أن يتقيأ ألم السنين وحسرة الحياة التي خسرها خلف القضبان بوجهه قبل قتله، وكأن العرض يصرخ بأن الظلم لا يقتل البراءة فحسب، بل يحولها إلى وحشية.
“القمقم” لم يكن مجرد مسرحية عن مسجون بريء، بل عن إنسان محاصر بين قسوة السلطة وظلم القدر، بين قمقم داخلي يرفض أن ينكسر، وعالم خارجي لا يمنح خلاصا، هو عرض يضع الجمهور أمام سؤال فلسفي حاد، ماذا تفيد العدالة حين تأتي متأخرة؟ وكم من مسجون بريء يقبع خلف قضبان أدلة مكتملة وحقيقة مغيبة؟.



