واحة الثقافة

“نكات” حين تتحول النكتة الى مرثية في عزلة الذات

المنسق الإعلامي لمهرجان عشيات طقوس فداء الحمزاوي
تصوير علاء القداح

على خشبة مسرح عشيات طقوس، وفي ختام الدورة الثامنة عشرة، ارتسمت صورة غير مألوفة، شاشة بيضاء تقطع الخشبة عرضا، كأنها جدار عازل بين الداخل والخارج، بين وعي رجل ووهمه، على الحبل المعلّق تتدلّى قطع الملابس، ينتقي منها ما يشاء ليصبح ما يريد أن يكون، في عملية مسخ مسرحية تكشف أن الهوية قابلة للتفصيل كالثياب، هنا يدخل الممثل والمخرج مریوان زنكنه بوصفه “راوي النكات”، لكن نكاته ليست للضحك بقدر ما هي محاولات يائسة للتواصل مع عالم غائب، أو جمهور صامت، لا يضحك ولا يتجاوب.

كل نكتة يرويها زنكنه تفتح فجوة في صمت القاعة، نكتة عن رجل يميت الناس من كثرة الضحك حتى تفرغ الكراسي، أو عن أم تطعم ابنها المشنوق، نكات سوداء، ساخرة، تفكك معنى الضحك نفسه، هل هو خلاص أم مجزرة؟ في الخلفية، تسهم موسيقى سيروان عمر في دفع الإيقاع نحو الجنون، بينما الإضاءة التي صاغها هوراز فؤاد وقاسم غمكين تتحرك كأنها كشافات حرب، تضيء العزلة وتفضحها في آن واحد.

الزوج بطل هذة المونودراما، يعيش في عزلة شقة صغيرة تحولت إلى زنزانة داخلية، زوجة تطرق الباب في الظلام، تطلب الدخول، وهو يرفض، الحوار بينهما ليس إلا مرآة هلوسة، من خلف الباب قد تكون زوجته، أو غريبة تنتحل صوتها، أو صدى وحدته، الباب هنا رمز للحد الفاصل بين الأنا والآخر، بين الانغلاق والخوف من الانكشاف.

ينزلق العرض بين مشاهد الحرب والهزل، بين ألعاب الخفة الفاشلة ومحاولات السحر الطفولية، بين صورة الهيكل العظمي في المرآة وبين حقيبة نسائية مسروقة، كل تفصيل يقلب المعنى على رأسه، السخرية تتحول إلى مأساة، والضحك يفضي إلى موت، والزوج ليس زوجا بل نشالا، ثم عجوز وحيدة تبحث عن “ابن للإيجار”، وفي ذروة المفارقة، يظهر شاب بزي عسكري، فتصرخ المرأة، “أنا لم أطلب جنديا يلبس الموت”.

هكذا ينكشف العرض بوصفه تأملا وجوديا في معنى الكوميديا، حيث لا يضحك شيء، بل كل نكتة تنزف مرارة العزلة وفقدان الحب وانكسار المعنى، مریوان زنكنه، عبر أدائه الممزق بين الساخر والمأساوي، يصوغ مونودراما تنهل من العبث والرمزية، بينما تمسك الإدارة المسرحية بيد قاسم غمكين بخيوط الفوضى لتتحول إلى لوحة مسرحية محكمة.

“نكات” ليست عرضا عن الضحك، بل عن استحالته، عن إنسان يحاول أن يروي حكاية مضحكة في زمن لا يضحك فيه أحد، عن ذات تصارع الفراغ لتكتشف أنها لم تكن يوما محبوبة ولا مرئية، في النهاية يفتح الباب ليكتشف أن زوجته ما زالت نائمة في الفراش، وأن كل شيء لم يكن سوى كابوس داخل كابوس.

هذا العرض الكردي القادم من العراق لا يكتفي بسرد مونولوج داخلي، بل يحوله إلى مختبر فلسفي للسؤال، ماذا يعني أن تصبح النكات مبكية؟ وهل تحولت حياتنا لكابوس نحاول التعايش معه؟

زر الذهاب إلى الأعلى